لايف ستايل، رأي

رسالة حنين لأيام الملابس الداخلية البيضاء

طارق عمواس، محرر الحدود للجدل الدياليكتيكي

Loading...
صورة رسالة حنين لأيام الملابس الداخلية البيضاء

يصيبني الشوق، ويتلعثم قلبي بالعشق المتعثّر أحياناً.

لكنّي أجد الطمأنينة في ذكرياتي، كلما عدت بها إلى أيّام الزمن الجميل، كل شيء قديم أحلى، هكذا أخبرتني امرأة مجنونة ذات يوم.

آهٍ على أيّام خبز الطابون، ورائحة الزعتر البلديّ الممزوجة بالحب الصادق وحبّات العرق ورائحة الغاز المسيل للدموع.

من منّا لا يشتاق إلى قهوة زمان البرازيليّة الأصلية، بعكس هذه الأصناف الحديثة الملوّنة التي تعقّد عمليّة الاختيار، أآخذ هذه العبوة الخضراء؟ أم تلك الأخرى ذات الصورة الأفضل؟ يا له من زمن وسخ.

تداعب نوستالجيا الصباح أصابع قدمي اليسرى، يعتمل الحنين في قلبي المثقل بالكولسترول، والذي يقول جاري الطبيب أنّه ما عاد يحتمل المزيد من أي شيء.

زمنٌ لم يعد يناسبني في هذا العمر، سأبلغ الأربعين بعد بضعة أعوام. لم يعد الفرد يعرف ماذا يشتري أو ماذا يأكل أو يفكّر أو كيف يعلك. لم يعد الواحد فينا قادراً على متابعة الأخبار والصحف، خاصّة إذا ما نسي المرء نظّاراته في مكانٍ ما، ثم نسي هذا المكان. أو، ربما لأن هذا المرء تعب من الحياة ومن كثر ما ضحّى وأفنى من عمره وهو يقرأ كتب النظرية العلميّة، ثم نسي ما قرأه.

ما عادت لدي القدرة على قراءة الكلمات المبهمة على ظهر العبوة.

لكنّني اليوم، سأصبّ لكم في القوالب الجاهزة التالية شيئاً مختلفاً، سأكتب لكم اليوم عن نوستالجية أخرى ترزح في أمعائي الدقيقة، هي أيضاً نوستالجيا لتلك الأيّام، أيّام زمان. أتذكرونها، عندما كانت الهزائم هزائم، والخيبة خيبة بالمعنى الحرفي، حتى إخفاقاتنا الجسيمة، كانت أفضل بلا شك. أي والله كانت هزائمنا هزائم مشرّفة وكبيرة، لماذا صارت هكذا، لا طعم لها ولا رائحة؟ يا حرام.

آه وآه، ومئة آه أخرى أشارككم بها، على تلك الأيام عندما كان الذلّ الصح، قبل اكتشاف الانترنت ويوتيوب، أيّام الانكسارات العميقة في الأنا العربية دون كاميرات، عندما كان السقوط يحدث كاملاً ويدوّي في أسبوعٍ من الزمن، والبنادق تطلق نارها بالعكس في لمسة رمزيّة من القدر، آهٍ وألف آهٍ والله آه يا الله.

لكن اليوم؟ صار في كلّ بلد هزيمة، في كلّ حارة، في كل شقة مفروشة استأجرها عاشقان هزيمة. تتداخل الانكسارات، ولم يعد المرء يعرف أي خيبة يتابع، ولا أي إخفاق يطالع.

في الأمس، تذكّرت الأيّام الخوالي، أيّام الراحل أبو عمّار ياسر عرفات. أذكر في تلك الأيّام كيف كان جنود الاحتلال يجبرون بواسل وأسود شباب الأمن الوقائي والحرس الرئاسي على التعرّي والظهور أمام العالم بملابسهم الداخلية ناصعة البياض بفعل مساحيق الغسيل الحديثة المستوردة.

كان الجنود يجبرون الشباب على رفع أيديهم فوق رؤوسهم، ليس على شكل قبضات تحيي الاحتلال بمصاحبة الهتافات، لا، أيّام زمان كانت أيديهم تبقى مرفوعة أعلى رؤوسهم، يقتادونهم في باصات، ثم كانوا يعودون، شباب الأجهزة، بوجوههم المعتادة أو بوجوه جديدة، ليقتادوننا نحن، ليشبحونا نحن، ليخلعوا أظافرنا نحن، لينقلوا لنا حقيقة ممارسات الاحتلال الوحشية، كما هي بلا تجميل، كما عرفوها وأحسن، هكذا كان دور الأجهزة الأمنية والشباب.

ما الذي حلّ بهذه الملابس الداخليّة البيضاء؟ لماذا حرمتنا من طلّتها على الفضائيّات؟ هل صادرتها اسرائيل، مع الإمبريالية العالمية وعملائها من الكومبرادوريين والنيو-ليبراليين.

سلامي عليها أينما كانت.

يا حيف على أيّام زمان. والله يا حيف وآه وآهين والله مية ألف آه.

ها هي القضية الفلسطينية، خائبة ومكسورة كما كانت دوماً وكما اعتدناها، لكن، لا ملابس داخلية بيضاء ولا غيره على التلفزيون هذه الأيّام. “التنسيق الأمني أكل كل شيء عمّي، بحسب نفس المرأة المجنونة، كلّه على الهواتف الذكيّة والواتس آب، لم يعد أحدٌ يظهر بملابسه الداخلية أمام الكاميرات، الآن كل الأجهزة وبتعليمات مباشرة من “فوق فوق” في السلطة، ممنوع أي أحد يرتدي ملابس داخلية لا أبيض ولا غيره!

أسألكم، قبل أن أستودعكم، وأتمنى أن تسألوا أنفسكم أنتم أيضاً لوحدكم، هل علّق التاريخ؟ أو بعبارة أدق وأكثر التزاماً منّي بالمنطق الميكانيكي، هل “كرّبج” التاريخ؟

ماذا لو أصبحنا كبطل ذلك الفيلم، الذي يستيقظ كلّ يوم، في نفس اليوم، وكأن الزمن حلقة مفرغة تعيد نفسها يوميّاً، ماذا لو كنّا هذا الفيلم، لكن بدون نهاية سعيدة، أو بلا نهاية أصلاً؟

columnist

طارق عمواس

ولد طارق عمواس في مخيم للّاجئين مثله مثل العديد من العرب، كان مخيّماً عاديّاً، لكّن عمواس لم يكن عاديّاً على الإطلاق. ترعرع في عمّان، وقاتل في لبنان حيث كان قائداً للفرقة المسؤولة عن دحر إحدى فرق العدو باستخدام الجدل الديالكتيكي، وكان ذلك الإنجاز الأول من

شعورك تجاه المقال؟