في مديح النقد الهدّام
فتحي العترماني - خبير في شؤون هندسة الوعي
٢٩ سبتمبر، ٢٠٢٥

لم يعد مقبولاً لك كمواطن أجرى فحص وطنية وجاءت نتيجته إيجابية بعد اليوم أن تكتب نقداً سياسياً بلا أسمنت وحديد مُدرفل، أن تشيّد رأياً بلا أساس متين من محاباةٍ وعباراتٍ منمّقة تخلو من أي شوائب قد تؤثر على معايير بناء دولة فخامته. فالنقد –بمعنييه الفكري والمالي– يجب أي أن يبني لفخامته قصراً إضافياً، أو على الأقل قاعة ضيوف جديدة يستقبل فيها السفراء والمستثمرين الذين يبنون القصور والدول.
لكننا، نحن دعاة النقد "الهدّام"، نرى أن الأمر أسهل بكثير: لماذا نضيّع الوقت في البناء بينما السلطة لديها الوزارات والهيئات والكوادر اللازمة لتتولى البناء بنفسها؟ هي بارعة في بناء السجون، وبناء التحالفات، وبناء سردياتٍ إعلامية إسمنتية لا تهتزّ حتى لو ضربتها زلازل ٧ ريختر من الحقائق والمؤامرات الكونية. فما حاجتها إلى نقدٍ يبني لها المزيد؟ ما ينقصها فعلاً هو معاول صغيرة من كلمات تهدم بعض الجدران كي يدخل الهواء والنور.
النقد البنّاء يقول: "نقترح تحسين أداء الحكومة"، بينما النقد الهدّام يقول: "الحكومة هي الأداء، والأداء يسوّد الوجه". النقد البنّاء يتقدم بمذكرة أو مناشدة أو عريضة إلكترونية يحتاج توقيعها تشغيل ڤي بي إن، أما النقد الهدّام فيتقدم بمجزرة من الأسئلة. البنّاء يضيف ملاحظة في الهامش وضمن المساحات المتاحة، والهدّام يمسح الهامش ويكتب في المتن باللون الأحمر: "ماذا أنتم فاعلون؟".
النقد البنّاء يذكّر المسؤول بأنه أخطأ لكنه يظلّ يحترمه، أما النقد الهدّام فيذكّره بأنه ليس مسؤولاً إلا عن سبب تأخره في تنفيذ أوامر فخامته لو نزَلَت، فهو موظف متعاقد عند السلطة. وبينما يرفق الناقد البنّاء نقده بخطة عمل، أكثر ما يمكن أن يقدمه الناقد الهدّام هو خطة نجاة.
ومع ذلك، لا يجب أن نغفل عن الفوائد الجليلة للنقد البنّاء: فهو يحافظ على مشاعر القيادة الحكيمة المرهفة الحساسة، ويمنع عنها الأرق الناتج عن التفكير، ما يجعلها تنام ما يكفي لتستيقظ في اليوم التالي بهمّة عاليةً للمزيد من البناء. كما أنه يراعي الجانب السيكولوجي للقيادة الحكيمة ويمنحها فرصة الشعور بالرضا أنها منفتحة على الرأي الآخر المختلف، بشرط أن لا يتعدى هذا الاختلاف الفواصل المنقوطة.
ووفقاً لدراسة صادرة عن المركز العربي لأبحاث الطبطبة، فإن ٩٣٪ من المسؤولين يفضلون النقد البنّاء لأنه يساعدهم على النوم باكراً والاستيقاظ وهم ما زالوا في مناصبهم.
في النهاية، ندعو القرّاء إلى التوقف عن هدم أو بناء أي شيء. دعوا الحكومات تهدم كما تشاء، وتبني كما تشاء، ودعونا نحن نكتفي بالنقد "الهدّام البنّاء": نقدٌ ينهدم على رؤوس أصحابه لكنه يترك فوق الركام لافتة تقول: "تم البناء بتمويل خارجي".