تغطية إخبارية، رأي

نحو منع التدخل الخارجي باستدعاء تدخلٍ خارجي أقوى

Loading...
صورة نحو منع التدخل الخارجي باستدعاء تدخلٍ خارجي أقوى

د. مراد أبو العاص - كاتب ومفّكر غزير

لم تسنح لي فرصة المشاركة في الحرب الأهلية اللبنانية، شأني شأن والدي الذي كان يعمل حينها في التجارة الدولية وساقه الحظ العاثر إلى حجز تذكرة من البرازيل إلى "بيرو" ظناً منه أنها "بيروت"، فعلقنا هناك لسنوات في منزل جدّي لأمي، الدبلوماسي البرازيلي الذي كان موظفاً بدوام جزئي في السفارة الأميركية؛ وعندما انتهت الحرب وتأكدنا من انتهاء الوجود السوري، عدت على أمل الإسهام في اقتصاد بلدي، لأكتشف أن لبنان خُطف، ولولا بضع أشجار أرز وحواجز للقوّات والكتائب في الأشرفية وكره السوريين لاعتقدت أنني سلكت الرحلة الخاطئة كوالدي. 

منذ هذه اللحظة المفصلية في حياتي، شأنها شأن لحظة مقتل والدي أمام أعيني في مداهمة للشرطة لشقتنا وهو يرتدي بوكسر أبيض مثل قلبه، في هذه اللحظة أدركت ارتهانه للقرار الإيراني، لبنان وليس والدي، وباءت كل محاولات استعادته دبلوماسياً وسلمياً وبالطبطبة والأحضان والتظاهر السلمي والتلويح بحرب أهلية جديدة، باءت كلها بالفشل، فما أدبق الإيراني وما أحنّ قلوبنا على جمهوره الذي يختبئ بيننا؛ لكننا الآن أمام فرصة تاريخية شأنها شأن الفرصة التي اغتنمتُها لإدارة أعمال والدي في مجال صناعة البودرة من بعده.

إن رياح التغيير التي تهب من الجنوب قد تكون مثيرة للقلق والريبة لدى البعض، وقد يتردّد أحدكم في مدّ يده للجيش الإسرائيلي بسبب تاريخ من الأخطاء الفردية التي ارتكبها في فلسطين -وهو خوف مبّرر- ولكن النظر إلى لبنان من منظور فلسطين هو تكريس لخطاب محور إيران الذي ظلّ يمنعنا من الحرية بحجة شق طريق تحرير فلسطين من مؤخرتنا، وربما ارتكبت إسرائيل الكثير من الأخطاء -شأنها شأن والدي- عندما أضرّ ببعض البيروفيين أثناء عمله على توفير مستقبل مشرق لنا، ولكن تعقيم الثلاجة يتطلب إحراق المطبخ.

إذا أردنا رؤية النصف الملآن من الكأس، علينا منح أنفسنا فرصة تجربة تدخّل آخر أقوى وأكثر تقدماً من تدخّل يعجز عن توفير طائرة رئاسية محترمة لرئيسه، بل ويعجز عن العثور عليها عند اختفائها، ولا يتزعزع نظامه بانفجار بضعة أجهزة بيجر، بل لا يستخدم أجهزة بيجر متخلفة من الأساس؛ ولا تستباح سيادته بطائرات نصف كم لمدة أربع ساعات دون أن يسقط واحدة منها، ولا يُقتل قيادي في محوره وهو في ضيافته، ولا يفاوض على برنامجه النووي ويحرّم القنبلة النووية طمعاً برفع عقوبات عنه، فالتدخّل الذي يفرض العقوبات هو من يجب أن يتدخّل فينا، ولو كنت مكان المُتدخل الأول لوددت أن يتدخّل بي المتدخّل الثاني.

ومن يقول إن السيادة تتحقق بمجرد التخلص من التدخل الإيراني هو إما مخطئ أو عميل شأنه شأن من وشى بوالدي؛ فالاستنجاد بتدخل خارجي لتحقيق السيادة هو الحل الأكثر سيادة في حالة لبنان، وكما كان يقول جدي: أحياناً يكون الطريق الأسرع للبيت هو الالتفاف حول مزرعة جارنا بيدرو والدخول من الشرفة لتجنب أسئلة جدتي؛ وفي حالة سيادتنا فإنها مضطرة لتدخل خارجي ينقذها من التدخل الخارجي الذي شلّها لعقود، فعضلات لبنان السياسية ضمرت لقلة استخدامها ولا بدّ من الاستعانة بمعالج طبيعي لإعادة النشاط لها بغض النظر عن جنسيته، ففريق سيليتك الاسكوتلندي -الذي يدافع عن فلسطين- يلعب في صفوفه مهاجم إسرائيلي.

الإيراني اليوم يجثم على ظهر لبنان مثل سمكة على ظهر سلحفاة، تسبح ببطء لكنها تنتظر اللحظة المناسبة لتصطاد فريستها، وللتخلص منها نحن بحاجة لقرش يلتهم السمكة لتعود السلحفاة إلى منزلها بأمان؛ وبكل الأحوال سيكون مثيراً تجربة شرق أوسط جديد فصّلته أميركا وإسرائيل بدلاً من الذي ألبستنا إياه إيران، على الأقل ستتوفّر لدينا الكهرباء لنرى نتائج هذا التدخل بدلاً من الإحساس فيه على العتمة.

استغلال تقهقر أذرع إيران ومقتل أبرز ممثلي مشيئتها ضرورة حتمية وليس خياراً، ولعلّ أهم ما تعلّمته من جدّي أن السياسة هي فنّ كسب ودّ أميركا، في الحقيقة توفّي جدي تاركاً إرثا يعادل ميزانية الحرس الثوري لسنوات، بالتالي من الأفضل الانضمام لهذا المشروع مبكراً لنجعل من سويسرا الشرق منارة الموضة والديمقراطية في وسط متخلّف، بكهرباء وبنزين وواي فاي سريع، ونكبّر كازينو لبنان ليصبح لاس فيغاس وإم تي في لفوكس نيوز واللجوء السوري وأكوام القمامة إلى عدم؛ وعندما نصل إلى هذا المستوى الحضاري، يمكننا فرض شروطنا وسيادتنا على المتدخّل بكل عين قويّة. 

أدرك تماماً أن بعض المزايدين القافزين إلى النتائج سيسارعون إلى تخويني كما خوّنوا جدّي، وأعلم أن كثيراً منكم اقتنع بما أقوله ولكنه يخشى على نفسه من الفكر المسلّح الذي يجابهنا به الآخر المنغلق على عمامته، ولكن هناك قول مأثور للسيد المسيح كان يردده والدي كثيراً وسأختم به "لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه يا مراد".



شعورك تجاه المقال؟