تغطية إخبارية، رأي

الوسواس القهري والزولوفت في الهوية الوطنية

Loading...
صورة الوسواس القهري والزولوفت في الهوية الوطنية

فهمي الخفيف - أخصائي الإدمان في الحدود

يمثّل الوسواس القهري واحداً من تلك التحديات التي يصعب تحويلها إلى فرص، وهذا بحد ذاته تحدٍّ يصعب تحويله إلى فرصة. لذا، رأى كبار علماء النفس المسلمين في الوسواس القهري مجموعة كبيرة من الفرص الضائعة، وهو ما أكّده مؤخّراً وزير الاستثمار. 

لكننا اليوم أصبحنا في عصر السرعة والتكتوك وغزو الفضاء والإبادة الجماعيّة، ولم يعد من العيب ولا الوصمة الاجتماعيّة أن يعي المرء وضع صحّته النفسيّة. فالوعي يتيح للمرء تناول العقاقير المناسبة التي صنعتها الرأسمالية لحالته، وتحويل أمراضه النفسيّة كلها لفرص في المزاج المعتدل أو الهجرة.

الصحّة النفسية والهوية الوطنية

غالباً ما تعاني الهويات الوطنية من أمراض نفسية، ولا تعتبر هويتنا الوطنية استثناءً (سوى في أنها أفخم وأقوى وأمتن وأأمن هوية في العالم، تطقّ العظام وتفقأ العيون). وعلى سبيل المثال، يعرف المجتمع الدولي أن الهوية الوطنية السورية باتت مصابة باضطراب تعدد الشخصيّات، والهوية الوطنية اللبنانية عانت وما تزال من تضخّم الأنا العليا المترافق مع انعدام الثقة بالذات. أمّا العراق فما زال مصاباً باضطراب ما بعد صدّام فيعاني من الكوابيس ورطوبة الفراش. 

ما هو الوسواس القهري؟ 

كان العلماء المسلمون أوّل من اكتشف* الوسواس القهري قبل أن يسرق الأجانب الفكرة ويطوّروها قليلاً. يتألّف مرض الوسواس القهري من شقّين اثنين*: أوّلاً، موجات من الوسوسة والنسنسة على شكل تهيؤات ورغبات ونزعات ومخاوف وشكوك* وقلق. ثانياً، سلوكيات وأفكار تتكرّر في محاولة لدرء الخطر و/أو مجابهة القلق والوساوس وسجن المشككين العرصات. 

الوسواس القهري والهوية الوطنية

تأتي الوسوسة في أنماط. فهنالك الوسواس المتعلّق بالجراثيم والأمراض والأوساخ. ينجم عن هذا هوس بالنظافة والغسيل ومسح الغبار وتنشيف الجلي وقم من هنا يا ولد لأنظف من تحتك، فأنا الوحيدة في هذا المنزل التي تتعب وتحرص ولو تركتكم وحدكم لغرقتم بقذارتكم أنت وأخوك محمد الله يلعن الساعة اللي تجوزت أبوكم فيها. وفي حالة الهوية الوطنية، تظهر هذه الأعراض على شكل مخاوف من إصابة الهوية بأي شائبة أو أن تلطّخها الحقيقة مثلاً. ومن السلوكيات المرتبطة بالقلق على نقاء الهوية تنظيف الشوارع من المحتجّين، والمحتجّين من حقوقهم والإنترنت من الأفكار والنشر من الصحافة والصحافة من الحريّة والحريّة من المعنى.

والنمط الثاني من الوسواس القهري نعرفه جميعاً، ويتعلق بأفعال مثل التأكد مرتين من إقفال الباب، ومرة ثالثة بعد التأكد من إطفاء الفرن، ثم الشك إن كنت قد أطفأت الإنارة. وهذا النوع من الوسواس يركّز بشكل أساسي على درء المخاطر والحفاظ على السلامة، والسلامة العامّة، والأمن والأمان، وقانون مكافحة الإرهاب وبند "ظروف تجلب الشبهة"، والسجن الإداري وقانون الجرائم الإلكترونية، والبند ١-ب من المادة ٣٧٧ من قانون العقوبات المتعلق بتصادم القطارات.

أمّا النمط الثالث فيتعلّق بترتيب الأشياء لتكون بشكل متوازٍ أو مثالي، كتعديل موقع منفضة السجائر لتكون في تمام الوسط من عقل أمين عام وزارة ما. ومن الأمثلة، تلك الحالة العصابيّة التي تدفع بصاحبها للتأكد من أن كل المواطنين يحملون نفس الأفكار الصحيحة وبنفس الترتيب الذي ورد في الإعلام الرسمي. يظهر هذا النمط أيضاً في فصل الأشياء متى ما اختلطت، كالإبعاد بين مكونات المجتمع جغرافياً وفي المعاملات الرسمية، أو فرز المسيحيين عن الشركس عن المسلمين عن المرأة في قانون الانتخاب. يمكن تتبع هذا النمط أيضاً في دقة وإتقان توزيع الأمن على الناس.

يرتبط النمط الرابع من الوسواس القهري بالمحرَّمات من أفكار وتهيؤات تخطر ببال المصاب، فيشعر بأنه غير أخلاقي أو ليس على ما يرام، وكأن به عطباً سياسياً اقتصادياً اجتماعياً ثقافياً ناجماً عن حالة من الانحطاط الحضاري. من الأمثلة: الهوس بالاستقرار لمجابهة المستقبل المجهول، أو فرط المقارنة مع سوريا واليمن والكونغو للتخلّص من الإحساس بالبؤس، وكثرة الحمد "على كل شيء" نظراً لأن "كل شيء" سيء.

يدّعي البعض وجود نمط خامس من الوسواس القهري، يتمثّل في عجز المرء عن التخلّص من الأشياء، ومراكمة كل ما يجده أو يحوزه، دون أدنى قدرة على ترك كل هذا الهراء الذي يجمعه. يمكن اعتبار هذا السلوك محاولة للتمسّك بالحياة، لسبب ما. ومن الأمثلة على ذلك جارك الذي لم يعد المنزل يتسع له وزوجته لكثرة ما يجمع من أثاث مكسّر وخردة وأطفال. أو جمع كل أنماط الوسواس القهري في هوية واحدة، أو موجات عصابيّة من تعليق الصور والأعلام والشعارات والرموز والاقتباسات على الجدران والمباني وفي المكاتب وفي القلوب، أو قرار مجلس الوزراء، المخجل غير الملزم، الذي يدعو الناس لتركيب سارية علم في كل مكان. 

التعامل مع الحالة

إلى جانب جلسات العلاج المعرفي السلوكي، مرّة أسبوعيّاً ومن ثم مرّة شهريّاً، يجب البدء فوراً بتعاطي مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRIs). ينصح بـ زولوفت عيار ٢٥ مج يوميّاً. ويأتي ريسبيردون بعيار ٠٫٢٥ مج يوميّاً لضمان أفضل سيطرة على الأعراض، مع علبة بنزوديازيبين من نوع فاليوم عيار ١٠ ملغ مرة قبل النوم نظراً لخصوصية الحالة. من الضروري الالتزام بالوصفة لمدّة شهر قبل زيارة الأخصائي لمتابعة الحالة وتعديل الجرعات تبعاً للحاجة. أيضاً، ينصح بالتحول من قهوة أبو صالح إلى الشاي، فما به الشاي؟ يهدئ البال والنفوس. وما بها فيروز صباحاً؟ أقلّ ضجيجاً من أغنيتك الوطنية.



  • كان الوسواس القهري من أوائل الأمراض النفسيّة والجسدية التي أتى على ذكرها الله شخصيّاً في محكم تنزيله في سورة الناس. وتبدأ السورة "قل أعوذ برب الناس"، في إشارة إلى خطورة المرض ونوع الخبرات اللازمة لعلاجه. أما التشخيص وسبب المرض وآليّة عمله فهي واضحة؛ حيث يوسوس الخنّاس في صدور الناس. أمّا تسبيق العلاج على التشخيص في السورة فهو بحد ذاته مثال آخر على الإعجاز العلمي الذي يتجاهله الغرب، حيث أتت السورة، قبل ١٤٤٦ عام، على ذكر القاعدة العلميّة والطبيّة التي ينسبها الغرب لنفسه وهي "درهم وقاية خير من قنطار علاج".
  • الثنائية: حالة فكرية تتسبب برؤية الإنسان للأشياء على شكل اثنين لا ثالث لهما، مثل جنة ونار، سنّة وشيعة، أبل وسامسونج، برشلونة ومدريد، أبيض وأسود، سكوت وسجن، الله والوطن. يزعم الغرب كثيراً مساهمته في دراسة هذا الموضوع فلسفيّاً وبحثيّاً، لكن الأصل الفكري والأساس في فهم العقلية الثنائية يعود إلى لفيلسوفة والمفكرة لطيفة التونسية، التي نقل عنها قولها "بحبّ بغرامك، ألاقي كلامك، محدد قصادي، كلام مش بيحود، يا أبيض يا أسود، لكن مش رمادي".
  • الشك: خلل ذهني مكروه من قبل القيادة، ويُسمّى أصحابه "المشكّكون". يمارس المشكّكون سلوكيات غريبة خارجة عن عاداتنا وثقافتنا وولائنا وانتمائنا، أهمها التساؤل عن الحقيقة رغم أن الدولة قد قرّرت الحقيقة. ومن الأعراض أيضاً الإشارة إلى التناقضات والسؤال عنها، مثل "لماذا تحبسون الناس رغم الإصلاح السياسي؟" أو "لماذا تضربونني والدولة تقول إن التعذيب ممنوع؟" أو "ما هي تهمتي؟" أو "إلى أين تأخذونني؟" أو "من أنا؟".

شعورك تجاه المقال؟