لايف ستايل، دراسة

اللَحْمَة الوطنيّة أصل الحرب الأهلية الليبية

صدام حسين التاجوري - مراسل الحدود من مطبخ القرار الليبي

Loading...
صورة اللَحْمَة الوطنيّة أصل الحرب الأهلية الليبية

في منتصفِ مايو من هذا العام، انحلّت ميليشيا من أصل ٧٥٤١١٣ ميليشيا في ليبيا، ولم يتبقَّ إلّا ٧٥٤١١٢ ميليشيا. خرج علينا محللون بيض شقرٌ وعربٌ مختصون وخبراء في الشأن الليبي، ليقولوا لنا إنّ هذه الحادثة تفضحُ تجاذبات القوى الخارجية ذات المصالح، وهشاشة الاستقرار السياسي الناتج عن الظروف الجيوسياسية العالمية المحيطة، وما إلى ذلك من الهراء الذي لا يؤكد شيئاً إلّا أن هؤلاء الخبراء لم يزوروا ليبيا أبداً، ولا يعرفون مدى ارتباط جذور الصراع في البلد بثقافةِ أهلهِ وعلاقات القوى التقليدية بينهم، ومكانة الطعام وآدابهِ عندهم، وخصوصاً مكانة لحمةِ الخروفِ في طبقِ المعكرونة.

وقبل أن تضحك وتقول "هاهاهاها، نكتة لطيفة" أو "أيها التافه الغبي، تسخرُ من عذابات الناس"، دعني أقصّ عليك هذه القصة: في ليبيا، كانت هناك ميليشيا واحدة فقط، يأكلُ قادتها وجبة المعكرونة في طبقٍ واحد، راضون سعداء بحبّاتِها ولحم الدجاجِ الذي كان يكفيهم جميعاً؛ حتى دخل عليهم أعرابي. رأى الأعرابي أن يوزِّعوا الطبقَ على طبقيْن، فأعجب القادة بهذا الرأي السديد وقسّموا أنفسهم. ما تجاهله الأعرابي أنّ التجمع حول الطبق لم يكن فقط للأكل، بل لمناقشةِ أمورِ الميليشيا المالية وسبل السيطرة على السياسيين الفاسدين والأساليب الحديثة لقمعِ الشعبِ وأحدث تقنياتِ تعذيبِ اللحمِ البشري في السجون.

وهكذا أصبحَ هناك طبقَا معكرونة، يخرجُ بهما قادةُ كلّ فريقٍ برأيٍ يخالفُ رأي الآخر. وكان أهمّ رأيٍ اختلف فيه الفريقان هو: ماذا نضعُ في طبقِ المعكرونة؟ لحم دجاج أم خروف؟ وهكذا، حدث أولُ انشقاقٍ في صفوفِ الميليشيا، إذ كان يمكنُ لأحدِ الفريقين أن يتنازل في مسألة تافهة مثل حصر التعاون العسكري مع الأمريكان أو الروس، أما اللحم فهو خط أحمر. انقسمت المليشيا إلى اثنتيْن، وكما تنقسم البكتيريا، انقسمتْ الاثنتان إلى أربع، بعدما دب الخلاف مجددا حول شكلِ المعكرونة: سباغيتّي أم بينّي أم على شكلِ أزهار أو على هيئةِ رجلٍ ليبيٍ مسحولٍ (رمز الأخوة والمحبة والتعاون المشترك بين المليشيات).

انقسمَ الأربعة ثمانية، وهكذا دواليكَ، كما يمكنك الاستنباط. إلا أنّ أكبر انقسامٍ حدثَ عندما اكتشفَ السياسيون الفاسدون ورؤساء الحكومات هذه اللعبة، وأدخلوا عليها تعديلاتٍ تزيدُ من جاذبيتها. فقد رأى سياسي أول حرف من اسمه رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيْبَة، رأى أن يعزِم قادة بعضِ الميليشيات على وجبةِ عشاءٍ فاخرةٍ، يتوسّطها خروفٌ مُحمّرٌ، دعماً لإعادةِ توحيدِ الصفوف. تجمّع القادة، لكن السياسي صمّم الجلسة بطريقةٍ تجعلُ أفضلَ قطعة لحم (الموزة) مقابل أحد الزعماء الكبار. وعندما جلسَ الزعماء إلى الطاولة وامتدّت يدُ السياسي إلى الموزة وأعطاها إلى زعيمٍ آخرٍ، فحزّت في نفسِ الأوّل، وخرج من الاجتماع باكياً يفرغُ ألم الإهانة  في تمزيقِ الجلدِ عن مواطنٍ تافهٍ كان قد كتبَ عنه نكتة على فيسبوك.

أقسم زعيمُ الميليشيا الحزين على الحرب، وقبل أن يُجهّزَ عتاده، اتصلَ به رئيس الحكومة واعتذرَ له، وطلبَ منه أن يُحضّر نفسه لعزومة يكون له فيها نصيبُ الأسد. فرِحَ الرجل واستعادَ كرامته ولبس أحسن الثيابِ وذهب إلى العزومة، وجلس ينتظرُ الذبيحة ورئيس الحكومة، لكنهما لم يأتيا. وعندما بدأ يسأل عن الذبيحة بعد أن استمتعَ هو وزعماءُ ميليشياتٍ آخرون بكسرِ عظامِ مواطنٍ رفضَ حكم الميليشيات، جاءه الجواب "أنت هو الذبيحة التي سنتناولها". قتلوه وطبخوه وعزموا الجيران من الأمم المتنافسة على السيطرة على ليبيا، وتفرَّق لحمه بين الأمم والميليشيات. لكن ما جهله الأكلة، أنّ لحم الرجل كان مسموماً برغبةٍ عارمةٍ في الحرب، فانطلقتْ شرارة الحرب الأهلية الليبية في مايو من هذا العام؛ عسى أن نجدَ لحماً آدامياً أو غير آدامي يمكنُه جمع الميليشيات في ميليشيا واحدة من جديد، يستمتعُ قادتُها بقمعِ الشعب ومناقشة أحدث تقنياتِ التعذيب في السجون.



شعورك تجاه المقال؟