الوجود والعدم في سوريا واحد
جان بول سارتر - ترجمة مايكل أبو العاص
٠٨ مايو، ٢٠٢٥

من بسطة كتب تحت جسر الرئيس "سابقاً" تناول أحدهم كتابي "الوجود والعدم"، ومن يد لأخرى استقر الكتاب عند عائلة في منطقة صحنايا، تعدل به حالياً ميلان طاولة التلفاز أثناء مشاهدة قناة سوريا تحلل زيارة الشّرع لفرنسا، أو ما يمكن تسميتها -من وجهة نظري- بزيارة العدم إلى علّته الأولى.
في باريس، كنتُ مأخوذاً بفكرة أن الإنسان مدفوع إلى الحرية، مطارداً بإحساس الاختيار الذي لا يستطيع الهرب منه. لكن في سوريا، اكتشفت أن المعادلة صارت مسخاً: الحرية ليست عبئاً فقط؛ إنها نكتة سمجة متكرّرة وسيئة الصياغة، كالتي كان يطلقها بين الحين والآخر أستاذي مارتن هايدغر في محاضراته.
جلست طويلاً هذا الصباح في مقهى الروضة أرتشف قهوتي السوداء. سألني النادل، بنصف سخرية ونصف يأس، "شو رأيك باللي عم بصير يا أستاذ؟". لم أجب. لأنني أعرف، وأنت تعرف، والنادل يعرف … أن السؤال الحقيقي ليس ما هو رأيي، وإنّما عن الفراغ الذي يغلف الوجود السوري، العدم.
ولكن ليس العدم وحده، فالوجود أيضاً تساوى هنا معه ليصبح فراغاً؛ كنت قبل وفاتي أحاول الإمساك بذلك الشعور المراوغ، الشعور بأن الأشياء دائماً تتجاوز ذاتها. الكرسي ليس مجرد كرسي، الإنسان ليس مجرد إنسان، والحرية ليست مجرد حرية. في سوريا، يبدو لي أن هذا التوتر بين الوجود والعدم زال تماماً في مسرح أنطولوجي، حيث المعنى لا ينهار بعد الحدث، بل ينهار قبل حدوثه، لعدم وجود إنترنت أو كهرباء أو وقود يمكن الإنسان السوري من ملاحظته.
الوعي السوري، كما أراه، اعتاد منذ عقود طويلة على المفارقة التي وضعتها: الإنسان ليس حرّاً في كونه حرّاً؛ بل مدفوع إلى الحرية كما يُدفع إلى هاوية، متحملاً المسؤولية حتى عندما تكون الخيارات كلها معدومة. تلك الحتمية التي تصرخ في وجهك: أنت وحدك المسؤول. حتى لو سقط الطاغية، حتى لو رحلت الحرب، ستبقى هناك مواجهة قاسية مع تلك المساحة الخالية "الفراغ"، حيث لا شيء يمنحك المعنى سوى ما تصنعه أنت، وأنت غير قادر على صنع شيء بطبيعة الحال دون رفع عقوبات ومساعدات دولية والتخلص من الأقليات أو موضوعها.
في سوريا، الوجود غارق في إعادة تشكّل دائم يصطدم بشبح الماضي، فتتحول إلى إعادة إنتاج للعدم نفسه، وهكذا يصبح الوجود والعدم شيئاً واحداً. فالعدم ليس مجرد غياب، بل هو الحضور السلبي؛ فإذا ما غاب الأسد لن يكون هنالك وجود للحرية، لأن الشرع تفضّل نزولاً عند رغبة العدم وحل مكانه بحضوره السلبي "الرجل إرهابي يا جماعة، ما بكم؟" فسواء سقط الأسد أو لم يسقط، فإن سؤال المعنى يظل معلقاً. لأن لا سقوط سيمنح الشعب فجأة ترياق المعنى. لا انتصار سيزيل الحتمية الفينومينولوجية التي تفرض على الفرد مواجهة مرحاض الوجود.
الإنسان محكوم بالحرية. لكن في سوريا، الإنسان محكوم بأن يُضحك القدر، إنه يمشي بين الأطلال دون الحاجة إلى فلسفتي ليشعر بالعدم؛ فهو يغرق فيه. يعيش فيه. يصنع منه هوية، أما حكاية الوجود والعدم والزفت هذه فآخرها أن تسند بها طاولة التلفاز.