لماذا تخفي السلطات المصرية الناس بالسر رغم قدرتها على إخفائهم بالعلن؟
١٣ أبريل، ٢٠٢٥

جبريل عقيق
بين أخبارٍ مصوّرةٍ موثّقةٍ لمجازر في سوريا والإبادة الجماعية في غزة، تتحفنا مصر بين فينةٍ وأخرى بأخبار مداهماتٍ تنتهي باختفاء قسري، كان آخرها اقتحام السلطات منزلاً دون إذن من النيابة، لاعتقال محمد عبد العزيز (١٥ عاماً) وسحله إلى الله أعلم. هكذا، اختفاءٌ قسريٌّ جديد، وتكرارٌ لظروف اعتقال سرّية، تترك الباب مشرعاً للمزاودين وأسئلتهم: ماذا حلَّ بمصر؟ أين مصر عبد الناصر؟ مصر السادات؟ مبارك؟ مصر المجلس العسكري؟ مصر مرسي؟ أين مصر السيسي؟ أين يد العدالة الناجزة التي لا يغلّها القانون؟
وتراهم يسترسلون: أين نحن من الإخفاء العلني لمحمد نجيب ومحمد مرسي وسامي عنان وكثيرون غيرهم؟ أين نحن من إخفاء سيد قطب والبابا شنودة الثالث وعبد الحميد كشك وكثيرون غيرهم؟ أين نحن من إخفاء محمود السعدني وهيكل ونوال السعداوي وتحية كاريوكا والأبنودي والشيخ إمام ونجم وكثيرون غيرهم؟ أين نحن من إخفاء أحمد دومة وأحمد ماهر وعلاء عبد الفتاح وعلاء عبد الفتاح وعلاء عبد الفتاح.
ويضيفون: أين ماما مصر التي تربي عيالها بالشِبشب والبيادة والفضح والإقامة الجبرية وتُهم "الانضمام إلى جماعة إرهابية" و"تمويل الإرهاب" و"نشر أخبار كاذبة" و"إهانة القوات المسلحة" و"التجمهر" و"تعطيل المرور"؟ أين مصر التي تَعْصُب وتكبّل وتضرب وتشتم وتصعق؟ أين مصر كشوف العذرية؟ أين مصر ترسل عَسسها أرتالاً وكتائب ليحشو سجونها بآلاف الإسلاميين والشيوعيين واليساريين؟ أين مصر قانون الطوارئ لثلاثين عاماً؟ مصر مباحث أمن الدولة بـ ١٠٠ ألف موظف؟ مصر الاعتقال الإداري بلا محاكمات؟ مصر المحاكم العسكرية للمدنيين؟ ما الذي يمنعها من إعلان تفاصيل عمّن تخفيهم كما تُعلن تعويم الجنيه ورفع سعر الخبز والدواء والحليب والكهرباء والمواصلات والوقود؟
ويضيفون ويضيفون وسيضيفون … هذا همّهم وشغلهم الشاغل.
ولَكَم تراودني أحلام أراني فيها رجلَ أمنٍ أو مخبراً يرد عليهم بما يليق، قبل أن أستيقظ على حقيقة أنني كاتب لا سلاح لي أطعنهم به سوى الكلمات.
وفي طعني المكتوب، سأبدأ بتفنيد مصطلح "الاختفاء القسري" لوضع الأمور في سياقها الصحيح. في اللغة، هناك قاعدة وهناك استثناء، والأصح وصف الاستثناء. والقاعدة هي أن الاختفاء قسري، الإنسان لا يختار الاختفاء؛ سواء جاءته جحافل الشرطة ليلاً وخلعت باب بيته وخلعته إلى جهة غير معلومة، أم حضرت نهاراً بإذن رسمي موقّع ودقّت الباب بأدب وأبلغته بتُهمِه وحقوقه واقتادته باحترام إلى قسم أبلغَت كل معارفه عنه، ثم وجهت للإعلام دعوة ليغطي مراسم استقباله والجولة التي سيأخذه الضابط بها قبل أن يودّعه على باب المهجع. لذا لا داعي لوصف الاختفاء بالقسري، هو اختفاء فقط. وحين نصف الاستثناء نقول "اختفاء اختياري" أو "طوعي" ويكون ذلك مثلاً حين تتوجه إلى المخبر في أول الحارة وتقول له: من فضلك، أريد أن تخفيني، فيجيبك: حاضر، تحت أمرك.
لنتحدث الآن عن اعتقال الأطفال. نحن لا نعرف ما الذي فعله محمد ليختفي "قسرياً"، لعله أكل سندويشة زميله أو أخطأ في معرفة كيف تحيا مصر. ولكن في المجمل، من المعروف أن كل طفل هو مشروع معارض محتمل، ولا يمكن للدولة الانتظار حتى يكبر ويتعرض لمفاهيم مستحيلة مثل الحرية والعدالة والمساواة ثم يطالب بتحقيقها، وبالتالي، يغدو اعتقاله واعتقال أقرانه تدريباً لهم على المواطنة المتصالحة مع واقعها، المواطنة التي اختبرت جهنّم مبكراً وتعرف أن هناك مصيراً أكثر ألماً إن هي أتعبت السلطة بالاحتجاج على ظروفها الأليمة.
هناك أيضاً المستجدون في حرفة التعذيب، الذين سيواجهون صعوبات في تطوير مهاراتهم إن تعاملوا مع سجناء كبار متمرّسين اعتادوا صعوبة الحياة وقهرَها، ولا بد أن توفر لهم دولتهم أرواحاً غضةً شابّة يسهل كسرها.
هل يقودنا هذا الكلام إلى وجود نقص في بعض أنواع السجناء؟ ربما، لكنه يؤكد أن تحقيق الاكتفاء الذاتي منهم أولوية مطلقة، وإلا ستضطر مصلحة السجون لتسريح السجانين، فيرتفع معدّل البطالة، وتفقد مصر خبراتها في التعتيم والملاحقة والاعتقال وتتدهور ظروفها الأمنية، أو تبقيهم في وظائفهم بطالةً مقنّعةً وعبئاً اقتصادياً على خزينتها؛ وهكذا، نجد أن لا بديل سوى جرّ المواطنين ليشيلوا كتفاً معها في أداء هذه المهمة الوطنية.
أما بشأن إخفاء السلطات للناس بشكل "سرّي"، فالسلطات تباغت عدوها ليلاً أي نعم، لكنها تخلع وتكسر وتصادر وتضرب وتصرخ وترهب وتسحل، فيرتفع الصياح والولولة ويجتمع الجيران وأهل المنطقة للمشاهدة. وهذا تبليغٌ أن المسحول بات في حوزة الدولة، وهو الآن ملك يمينها وشمالها.
ولكن، ما المشكلة لو تصرّفت الدولة بسريّة؟ أليس لكل دولة الحق في الاستعانة على قضاء حوائجها بالسر والكتمان؟ هيّا، أكفر يا عديم الإيمان والوطنية. إن السرّية عمل تنظيمي يحفظ للدولة كيانها. لماذا لا نراك تطالب مطعم الشاورما الذي تحب شاورمته بالكشف عن خلطاته السرية؟
وليكن الإخفاء سرّياً، فمصر في طليعة الخبرات الأمنية على المستوى الدولي، ولا بد من تدريب الأمن على تطوير مهاراته في العمليات السرية محلياً لتنمية لياقته الميدانية، وابتعاثه لتنفيذ مهام أكبر على مستوى دولي، مثل اختطاف معارضين في الخارج أو دفعهم للانتحار من الشرفة بعد تصفيتهم.
وليكن الإخفاء سرّياً، فالسرّية تعزّز ارتباط المواطنين بالحكومة، حين يحاول ذوو المختفي وأصدقاؤه ومعارفه البحث عنه، وينخرطون في الدوران بين الدوائر والأقسام والمكاتب والشبابيك، إلى أن يفهمو آليات النظام ويعرفوا أن تنقّلهم وبحثهم المستمر هو الغرض من مؤسسات الدولة.
وليكن الإخفاء سرّياً، فالسر مكمن العظمة. ما من فن عظيم بلا غموض. والسياسي المصري يَعرف أن فن الحكم يكمن في عدم معرفة أحد كيف تدار الأمور بشكل كامل، فيَسحبُ المواطنَ دون أثر، ثم يُظهره من العدم في محكمة أمن الدولة. إنه عمل يفرض احترامه وهيبته. عمل جدير بالاحتفاء به والحفاظ عليه، لأن أثره لا ينتهي بالإفراج عن المواطن أو إعادته إلى السجن، بل يمتد ليلقي بظلاله على فنون وآداب أخرى، فلا نستبعد أن نقرأ عما قريب "أدب الاختفاء" كفرع جديد من "أدب السجون".
وليكن الإخفاء سرّياً، فللمختفي حقّ احترام خصوصيته، ومصر لا تفرط بخصوصية أبنائها حتى العاقّين منهم، فتحميهم من زيارات غير مرغوبة بما تجرّه من توتر وكآبة على المختفي ومعارفه وأسرته، أو حزن عميق لمعرفته أن أمه أو أباه أو كليهما قد توفيا حزناً عليه، أو أصيبا بجلطة وهما الآن في مستشفى حكومي بلا رعاية وغير قادرين على الكلام، أو حزن وجودي جراء استلامه طعاماً لا يحبّه.
من الممكن الاستمرار بالشرح والتوضيح، لكن ما أسلفته كثير على المزاودين، والعدل يقتضي توضيح أن الرئيس السيسي وعهده على العهد. مصر لم تتغير. تخفي في العلن، فتثبتُ لأعداء الداخل والخارج من يمسك زمام البلاد بعرضٍ عسكري، وتريهم أنها لا تخشى المواجهة؛ وتخفي في السرّ، فتعيد المشهد ضبابياً يتخبط فيه الأعداء خوفاً من قبضتها الحديدية التي ستنقض عليهم وتمحوهم من الوجود بلا حسّ ولا خبر، وتوفّر كلفة توظيف كوادر متخصصة بإبلاغ الناس عن أماكن أولادهم وأحبائهم، وتعالج بوادر انفلات العوام بالصدمة المستمرة.