العواقب الاقتصادية لكتابةِ مقالةِ رأيٍ واحدةٍ
١٣ مارس، ٢٠٢٥

صدّام حسين التاجوري
كـ** مقالات الرأي، وكـ** قلم من يكتبها. كفانا يا أخي من آراءِ الكتّاب العَرب في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من التطوّرات السياسية في هونولولو إلى الطريقةِ المثلى للقفز بالزّانة. يجلسُ أحدهم أمام الشاشة البيضاء، ويحاول قدر الإمكان أن يكتب أي شيء يسكتُ المحرر البائس الذي يلاحقه، والذي يريد بدورِه مسح الجوخ لرئيس التحرير، الذي يحتاج هو الآخر أن يحلِّلَ قرشه عند ربِّ العمل. هذا كله ليخرجَ لنا الكاتب العزيزُ برأيه، الذي يُفضَّل قمعه، وسأثبتُ لكم هذا بعملية حسابية بسيطة أنّنا نهدرُ الأموال والطاقات في علمٍ لا ينفع وجهلٍ لا يضر.
لِنَقُل إنّ عدد مقالات الرأي التي تنشرها صحيفة أو جريدة أو أي موقع إعلامي يوميّاً خمس مقالات، أو لنَقُل إنّها مقالتان. ولنعتبر أنّ عدد الصحف والمواقع في عالمنا العربي لا يتجاوز مئتيْن، إذن عندنا أربعمئة مقالة رأي يومياً، أي ألفين وثمانمائة أسبوعياً، ما يساوي تقريباً مئة وأربعين ألفَ مقالة رأي سنوياً، وهذا دون احتساب الأيامِ التي قد تتسلل فيها الكآبة إلى روح كاتبٍ بدأ يتشكك في أهميةِ طرحِه لرأيه، أو الأيام التي يتعارك فيها مع المحرر البائس لأنّه حذفَ من مقالتِه جملة "كـ** من يكره سيدنا" ووضع مكانها كلماتٍ أخف مثل "كـ** من لا يحب سيدنا". هذا الرقم الكبير لا يحتَسبُ أيام العُطل والأعياد والأيام المطيرة والأيام التي يحتاجُ فيها الكاتب إلى الوقوف في طابورٍ طويلٍ بمؤسسةٍ حكومية وأيام الجمعة التي لا يكتبُ فيها أحدٌ ولا يقرأ، ومع ذلك، فهو أقلُّ تقدير لهذا الكم الهائل من المقالات التي تُنشَرُ لأنّ صاحب الموقع والصحيفة يغسلُ أموالَه الفاسدة، أو لأنّه فتح منصته صدقةً على روحِ والدِه ليساعد بها الكتّاب المنهكين، أو أن هناك مؤامرة ما لتأزيمِ اقتصادِ البلاد المتأزم.
يستهلكُ كاتبُ مقالة رأيٍ واحدةٍ خمسةَ أكوابٍ من القهوة وعشر سجائر ومئتي واط من الكهرباء وقطعة خبز وبيْضتيْن ومئة ميغابايت من الإنترنت وما يقارب إثني عشرَ لتراً من الأكسجين ونصف لتر من الماء الذي سيجعله يذهب إلى لحمام ليتبوّل ويستهلك أربع لترات أخرى من الماء، وقد يتأزمُ به الوضع من اختلاطِ القهوة والبيض والسجائر، ويضطرُّ إلى الإقامة دقائقَ أخرى في الحمام. يتضخّمُ العددُ إذا ما ضربناه بالرقمِ الأسبوعي، فيظهر لنا أنّ الكاتب يحتاج أربع عشرةَ بيضة، مما يعني إنهاك دجاجةٍ واحدة على الأقل أُجْبِرت على العبودية، وطبعاً سيشتري عشر علب سجائر كل أسبوع فتتدهور صحته، ليحجزَ موعداً عند طبيبٍ يمكنُ أن يعالجَ حالات أخرى أكثر فائدة للمجتمع. وسيستهلك حضرة الكاتب ما يساوي نصف كيلوغرام من القهوة، مما يسبب ضغطاً على طفلٍ عاملٍ في البرازيل يزرعُ القهوة ليساعد أمّه المقعدة، ويعني أنّه يستهلك على الأقل سبعة أرغفة خبز، وحضرتُك أعلمُ النّاسِ بأزمةِ الدقيق. هذه كلّها وغيرها من التفاصيل، دولارات تطير هباء في اقتصاد العالم؛ وتؤثّر في نقصِ المواد الأساسية اليومية وتعطّل عجلة الاقتصاد، لذا، عندما تجدُ نقصاً في القهوة، عليكَ أن تسبَّ جَدَّ شجرةِ سلالةِ كتّاب الرأي بدلاً من الحكومة.
يستهلك الكاتب أيضاً جهد زوجتِه ووقتَها وصحتها النفسية إن كان يكتب في منزلِه، فيوقف فرداً في المجتمع عن العمل من أجلِ حضرةِ جنابِ رأيه، بدلاً من أن تنشغل بتنظيفِ بيتِه وتربية عياله، أو تعمل في الصحافة لكتابةِ مقالِة رأيٍ عن مأساتها الشخصية معه. وإن كان يكتبُ في المقهى، سيستهلك جهد النادل وتركيزه، مما يجعلُ فرداً آخر في المجتمع يعملُ ساهراً على راحتِه. وهكذا تتوالى سلسلةُ المتضرّرين من مقالةِ رأيٍ واحدة، بدءاً من مزاج المحرّرِ الذي سيحتاج أضعافَ ما استهلكه الكاتبُ من القهوة والسجائر ليصلّحَ أخطاءه، إلى كاتبٍ آخرَ يريدُ الردَّ على الكاتبِ برأيِه، إلى صاحبةِ ذلك الكاتب، والعاملين في المطابع لطباعة رأيه في صحيفة، والعاملين في قطاعِ الاتصالات عندما تتضرر الشبكة بهذا الحملِ من مقالات الرأي، والأطباء والمزارعين وعمّال الشحن في الميناء، وعُمّال مصانع أقلامِ الحبر لأنّ سيادته يرى في كتابةِ رأيه على ورقة ثمَّ طباعتها على الحاسوب رونقاً رومانسياً. وطبعاً لا ننسى المحقّقين والضبّاط والعناصر الأمنية الذين يتابعون كلَّ شاردةٍ وواردة، مما يربكُ عملهم. زدْ عليهم موظّفي السجون وبُناة السجون والسجون نفسها، التي من المفترض أن يمتلئَ بها كلُّ صاحبِ رأي سواءً كان معارضاً للحكومة أو موالياً لها.
نعم، هكذا يتضرر اقتصادنا وينحدرُ بسبب مقالةِ رأي واحدة؛ وخذ في البال أنني حاولتُ التبسيط قدر الإمكان، وإلا فالأمرُ أفدح وأعقد. لم أحسب مثلاً تكلفة كتابة مقالة واحدة على الغابات وصناعة الورق للكتبِ التي يفترض بسعادة الكاتب قرائتُها لكنّه لا يفعل. هذه حسبة خالية من تكاليف الصناعات الكيميائية التي تضرّ بالبيئة مثل صناعة الحبر. لم أرغب في ذكرِ تكاليف علاجِ الضغط عند السيد رئيس التحرير بسبب المآسي التي تصله، ولم أرد إزعاجك بحقيقة أنّ مقالة رأي واحدة تحتاجُ لإنتاجها جهد ما يقارب مليون إنسانٍ إلا إنساناً واحداً هو الكاتب نفسه، مما يجرّ علينا خسائر بملايين الدولارات أسبوعياً. وكل هذا لِم؟ حتى يجلس أحدهم لكتابةِ مقالة رأي لن يقرأها إلا هو وخمسة من أصدقائه على فيسبوك وفتاة يحاول أن يتقرّب منها؟ يا أخي ك** رأيك على رأيي بمقالةِ الرأي.