زيغمونت باومان يكتب: التقوى السائلة
زيغمونت باومان - أقلام مأجورة
٠٥ مارس، ٢٠٢٥

في المجتمعات الحديثة، تتخذ التقوى أشكالاً غير متوقعة، كما هو الحال مع جاري أبو رحيم عبد الشكور، وهو يعمل في الصيانة العامّة، إذ سألته أثناء تعليقه الزينة على نافذته إن كان قد رُزِقَ بمولود تاسع، فأجابني بأنه يحتفل بحلول رمضان الرحمة والمغفرة. فهمتُ من حديثه أنه يعلّق حبل غسيل لتجفيف ذنوبه المغسولة، حيث سيُسامَح، دون استفتاء لجنة العمارة، على ٣٣٥ يوماً نكّل بجيرانه خلالها.
وكما الحداثة، تتكيّف التقوى مع المعطيات الجديدة، مثل أبو رحيم إيّاه الذي لم يبقِ ماسورةً للجيران إلا واستبدلها بضعف الثمن، ولا دهان في منزلي إلا وأعاد طلاءه كل عام بأربعة أضعاف الأجر المعتاد بحجّة أنه "ألماني" ويدوم إلى الأبد، ورأيته بأم عيني يشوي اللحم أثناء الصيام الكبير دون أدنى احترام لمشاعر الجيران الصائمين؛ لكنه الآن يستخدم التقوى للدخول في حالة روحانية مؤقتة، يعود بعدها أكثر رذالةً.
في عصر الحداثة الرقمية، باتت التقوى منتَجاً ثقافياً آخر، يُستهلك بصرياً كفلتر انستاغرام تكون فيه الصورة متغيّرة ومؤقتة؛ أشبه بأضواء الزينة الرمضانية التي أزالها أبو رحيم فور انتهاء الشهر العام الماضي، وتقاس بعدد اللايكات التي يحصل عليها منشور دعاء الإفطار مع صورة أطباق اليوم، حيث بإمكانك أن تكون قديساً رقمياً بصورتين وهاشتاغ وإيموجي.
التقوى الحديثة ناجمة عن تحوّلات سلوكيّة موسميّة وليست أصيلة؛ حيث يتم تعليق بعض الممارسات، لا انطلاقًا من مراجعة أخلاقية، بل كجزء من دورة اجتماعية متكررة، يعقبها ارتداد أكثر قوة بمجرد انتهاء الموسم. فصفحات على فيسبوك مثل "خدامين أقدام سارة أحمد" تعتذر لمدة ٣٠ يوماً فقط عن استعباد كلبوباتها وخورفتهم ببطاقات شحن، ثم تعود بأسعار مضاعفة بمناسبة الأعياد.
هذا النمط من السيولة يمتد إلى السوق، فالمطاعم تدخل في سباق تقوى على عروض الإفطار التي يعادل ثمنها، بعد العرض، تكلفة إطعام قرية صومالية كاملة، والماركات تطرح عباءات رمضانية كانت قبل بضعة أيام ملابس كاجوال للسهرات بثلاثة أضعاف السعر؛ والموظّف يعمل لساعات أقل كي لا يتحوّل إلى قنبلة موقوتة تنفجر في الزبون والمدير والشركة والرأسمالية والشهر الفضيل.
بل إن التقوى نفسها أصبحت سلعة يتدافع الجميع لشرائها خلال رمضان، ثم يلقونها جانباً بمجرد انتهائه كأي جهاز مشي اشتروه بحماس على العروض ولم يُستخدم إلا لشهر. في أحسن الأحوال، هي دورة تدريبية تخرج منها كما تخرج من ورشات يو إس إيد، طيبة الذكر، متخماً بالطعام والضيافة، ناعساً، لا تحمل معك أي أثر على حياتك ومعيشة من حولك لباقي العام.