الزمان السائل: هل نعيش كلنا في ٢٠٢٤؟
فتحي العترماني - خبير في الزيجمونت باومن
٠٣ نوفمبر، ٢٠٢٤
النظر في الهاتف يقول إن السنة هي ٢٠٢٤، تذييل البيانات السياسية والعسكرية يقول إنها ٢٠٢٤، حتى التاريخ الذي سيظهر أعلى هذا المقال سيقول ذلك، نبدو وكأننا أمام اتفاق ما غير معلن يحاول فرض الصلابة والثبات على زمنٍ صلب موحّد باتجاهٍ واحد فقط، ولكن وقائع السيولة الزمنية في منطقتنا أثبتت ديناميكية الزمن وإمكانيّة طيّه وعكسه وإعادته بمجرّد تفويتها لبعض المحطّات التاريخية.
والحال أنَّ دعاة الزمن ثابت الاتجاه هم الأكثر عرضةً للتغيير دون إقرار. تغييرٌ مناخيّ بسبب ثورة صناعية، تغييرٌ في أسعار الطاقة بسبب إغلاقٍ روسي لصنبور نورد ستريم، تغييرٌ في الخارطة الاستراتيجية بسبب حربٍ في غزة، وتغييراتٌ ألفين وأربع وعشرينية كثيرة – ليس أقلها التهديد برفع رسوم اشتراك تشات جي بي تي إلى ٢٠٠٠ دولار – تعزز القلق وتغذي حالة عدم اليقين في ظل عدم وجود ثوابت وطنية لديهم يمكنهم الانطلاق منها في مطلع النشرات والخطابات الرسمية كما نفعل منذ نكسة حزيران.
سوريا: العودة والعودة المضادة
عرفت سوريا عام ٢٠١١ مخاطر التسحسُل على سيرورة الزمن، لكن حرباً اندلعت بين فريقين أوّلهما أراد القتال بالملائكة على طريقة القرن السابع للميلاد، وثانيهما قاتل بطائرات الميغ السوفييتية، أدّت إلى اتفاق الفريقين على وضع البلاد على سكة الثمانينات لتنجو من تهديدات العصر السيبراني للقطاع البنكي بالتخلي عنه، ومنح الشعب فرصة العودة إلى الثورة الزراعية ليُتاح له إعادة بناء المجتمع والدولة استعداداً للديموقراطية، بما يسمح للطبقة السياسية بتطوير خطوط تجارة الظل المستدامة، بدلاً من الوقت الذي كان سيضيع على وضع الخطط والمساءلة وتجديد الخطاب السياسي بما يتماشى مع العصر الألفين وأربع وعشريني.
لبنان: صراع السبعينات ومطلع الألفية
حتى مطلع الألفية، انجرف لبنان على منحدر الحداثة وعالم التكنولوجيا والتطوير والاستثمارات والإعلام، فجاءت حرب تموز ٢٠٠٦ لتؤكد لحزب الله أن البلد وصل إلى ذروة التاريخ من بياناتٍ عسكرية وقواعد ردع وراجمات كاتيوشا حققت النصر الإلهي، فقرّر وقف التاريخ عندها والكفّ عن البحث عن النصر الدنيوي والسعي للتفوق على العدو تكنولجياً. إلا أن ما ميَّز الحالة اللبنانية هو وجود حياة سياسية سائلة مرنة متغيّرة وأحزاب مسلّحة بالوعي باستخدام السلاح وسلة ارتهانات متنوعة، وخصوماً رافضين العودة الميليشياوية إلى ٢٠٠٦ والدفع بالعودة إلى السبعينيات بحربٍ أهلية.
السودان: هل هناك ما يستوجب مغادرة ٢٠٠٣؟
من أعضل معضلات الحداثة هو ضغط الأقران الذي تمارسه وسائل الإعلام على الدول لتعميم ثقافة الـ ٢٠٢٤ وعقد المقارنات وخطوط التنافس على من يصل للمستقبل بشكلٍ أسرع. لكن لحسن حظ السودان الشقيق أنه أفلت من ذلك بخروجه من دائرة اهتمام ذاك الإعلام عام ٢٠٠٣ عندما وقعت فيه الإبادة في عصرٍ لم يكن فيه تداول كلمة "جينوسايد" كوولاً بما يكفي. فوجد صنّاع سياسيته في تلك اللا-كَوولَنة منطقة راحة لإعادة تجارب ٢٠٠٣ مرة ومرتين وثلاثة حتى الوصول إلى الإبادة المثالية مع كل عودة في التاريخ بعيداً عن عصر الانترنت والاتصالات والصوت والصورة.
إن عاد الزمن فهو لك
تكتشف مع الأيام أنَّ الزمن داءٌ دواؤه التجاهل، فإن تركته عاد إليك كما هو. وفي حين ينهمك العالم في طيّ العصور تحت جناحي الطائرات الأسرع من الصوت، نطوي أعداءنا ومتربّصينا طيّ الصحف، وفي عصر جلب فيه إنسان ٢٠٢٤ إلى نفسه مشقّة البحث عن مصادر طاقة لأنظمة الذكاء الاصنطاعي الذي تجاوزت باستهلاكها حاجة دول بأكملها، جلبنا التاريخ من القبو لنعيش بلا كهرباء ولا هموم إنسان متمدّن ومتحضّر على مقاييسهم؛ فالتقدم والحضارة يقاس بقدرتك على البقاء في تاريخ مختلف عن التاريخ الذي يعيش فيه الآخرين.