ما تعريف الصمود؟ شاب يسأل من تحت أنقاض غزة وناشط يطالبه بتوفير كلامه للصمود أكثر
وضاح أبو الوضوح - مراسل الحدود من غزة
٠٣ يناير، ٢٠٢٤
كانت الأشهر الثلاثة الماضية أشهرَ الإنجازات بالنسبة لي، فسطّرت النجاح تلو الآخر؛ نجحت باستجداء الناجين لانتشالي من تحت أنقاض منزلي ولم أختنق بسبب الرمل في فمي، ونجحت بعدها بالهرب من مخيم الشاطئ حياً أرزق وبساق واحدة حيث لم تبتر الثانية رغم القصف العنيف، ثم نجحت بعبور شارع صلاح الدين خلال ثلاثة أيام فقط ولم أفقد خلال الرحلة سوى فردين من عائلتي، نجحت في ادخار ١٠ دولارات بعد شراء خيمة مجانية في رفح بسعر معقول، ثم حققت نجاحاً في العثور على شجرة واقفة واستخدمت أغصانها لطهي شيء ما يتحرك عثرت عليه قربها، وفوق ذلك نجحت بالعودة إلى الخيمة لأجدها مكانها، وفي نهاية المطاف توّجت سلسلة إنجازاتي بنجاحي في الحصول على شريحة إلكترونية مكّنتني من ولوج الإنترنت لأعبّر عن نفسي في مساحة حرة لا قيود فيها سوى الخوارزميات وآراء المتابعين في الخارج.
المهم، والله ولجت ورأيت أصدقائي خارج القطاع يشددون على أهمية أننا لسنا مجرد أرقام ، بل رييلز وستوريز وتصاميم ثوريّة، فعزمت على نشر قصّتي خلال الحرب، لتنهال عليّ بعدها المشاركات وتفاعلات الأحببته والأحزنني، وراح مئات المعلّقين يحيّوني على صمودي وبطولاتي ويشكروني على قوة الحبكة ومتانتها والنهاية المفتوحة المتروكة لخيالات القارئ والقادة المتحكّمين بمصيري، ويدعوني إلى الاستمرار في خوض تجارب ملهمة مشابهة أخرى وكتابتها لكي تبقى القضية حيةً في وجدان الأجيال، لكن مع اختزال الألم والمآسي منها قدر الإمكان والتركيز على إبراز الجانب البطولي مني بصفتي من غزّة ورجلاً ابن رجل من ظهر رجل.
ظننت أنه أثناء انقطاعي عن الإنترنت شاع استخدام الاستعارات والمجازات، وأصبح عيش المأساة صمود والبقاء تحت القصف قسراً بطولة، فسألت جموع المعلّقين باستنكار عن قصدهم بهذه العبارات لكن منشوري لم يحظَ بحجم التفاعلات والمشاركات الذي حصلت عليه في المنشور السابق، بل هاجمني جلال القويّ -يضع صورة المثلث الأحمر صورةً شخصية- وأم حسام الشهبندر التي تضع صورة للملثّم، والرفيق فادي الذي يضع بجانب اسمه منجلاً، طالبوني بحذف منشوري فوراً، لأن هذا ليس الوقت المناسب للشكوى والتساؤل في ظل الحاجة الماسّة لبذل المزيد من الصمود والتحدي في وجه الإف-١٦، لما في ذلك من فردانيّة وأنانية في استغلال لحظات الإنترنت المتوفرة لديّ لأحكي تجربتي الذاتية بدلاً من شحذ همم المرابطين على هواتفهم في جبهات عمّان والقاهرة واسطنبول وعواصم أوروبا.
كما ترك لي الناشط ماهر طبّال العتمة تعليقاً يطالبني فيه بإيضاح مغزى تساؤلاتي والجهة التي تقف وراءها، محذراً من يقرؤون تعليقه من الانجرار وراء طرح هذا النوع من التساؤلات التي تكرر الخطاب الإسرائيلي الذي يدّعي أن سكّان غزة يعانون بالفعل، بدلاً من إبراز حقيقتهم كأبطال لا تشعر بالألم ولا الخيبة ولا الخوف لأنهم أُسودٌ صناديد سنواريّة بشرية.
أغلقت حساباتي بسبب كثرة الشتائم ورسائل التخوين والاتهام، لأجد قناة الجزيرة تغطي الأحداث بالقرب من خيمتي، فهرعت إلى المراسل لأحكي له على الهواء معاناتي وأنقلها إلى العالم، وبعد أن أفسح لي المجال لسبع ثوانٍ قاطعته المذيعة لبث فيديو جديد لاستهداف مدرعة إسرائيلية وتحليل فايز الدويري للمقطع، وأنا هنا أكتب لكم وما زلت بانتظار انتهاء فقرة الدويري، وكلّي صمود وتحدي وبطولة وكما تشاؤون، المهم أن تكونوا راضين عن أدائنا وأن لا نكون قصّرنا معكم حتى الآن.