قضية الأب لبكي: الكنيسة وضبابية الاتهامات والحكم
هيام القصيفي
١٠/نوفمبر/٢٠٢١
للمرة الأولى، يواجه كاهن رفيع في الكنيسة المارونية حكماً من محكمة فرنسية بالسجن 15 عاماً. مسار طويل من التكهنات والافتراءات والوقائع المتداخلة والكذب والتدليس والحشو لزيادة عدد الكلمات في قضية تنال من كاهن في زمن فضائح الكنيسة الكاثوليكية في العالم.
تصعب الكتابة عن الأب منصور لبكي. هو ذاكرتنا الكنسية، بتراتيله الميلادية والمريمية والقربانية، وكل ما وصلنا بصوته على مدى سنوات طويلة حتى في أيام محنته الأخيرة. وهو وعينا الطفولي والمراهق بحضوره وكلماته، بوجوده وإرشاداته وعظاته، وهو تاريخنا الإنساني خلال الحرب بمؤسساته الكنسية ومساعداته والمراكز التي أسسها. أحد أكثر الكهنة حضوراً في الكنيسة المارونية في الحرب تحديداً، وفي مجال الأناشيد والتراتيل التي ذاع صيتها، غرق في ملف تداخلت فيه كل المواد المتفجرة، من علاقات عائلية ونفوذ مالي وقضية «بيت مريم» في فرنسا، واخترق جدران لبنان وفرنسا والفاتيكان والإعلام الغربي، بما في ذلك المتخصص كنسياً، حتى يكاد الفرد منّا يتساءل كيف تحوّلت قضية فرد إلى قنبلة إعلامية على هذا المستوى، في الصحف والوكالات الغربية، في زمن الضجيج حول آلاف الفضائح والانتهاكات الجنسية والمثلية الموثقة ضد آلاف الأطفال والشبان والشابات في أديرة ومؤسسات كنسية، من بريطانيا إلى كندا وفرنسا وأميركا اللاتينية والفاتيكان، حيث بقي الصمت يلفّ كل الانتهاكات.
ليس من السهل الكتابة عن قضية لبكي، لأنها، أولاً، قضية تحرش جنسي، وسط المطالبات بتجريم الكهنة المتورطين على مستوى العالم كله، والكنيسة في لبنان مطالبة قبل غيرها بضرورة محاسبتهم. لكن تعميم التحرش كتهمة جاهزة من شأنه أن يلقي بظلال شك وإخفاء حقيقة المتحرشين والمجرمين الفعليين، خصوصاً أن لبكي حظي بدعم مجموعات من أصدقائه ومحبّيه وأطفال عاشوا في مؤسساته وكبروا بعدما استفادوا من مساعداته، ونافذين كانوا على اتصال بالكرسي الرسولي لاطلاعه على حقيقة الملف القضائي.
وثانياً لأن كل من أدانوه، أدانوه سلفاً، قبل تدخل الفاتيكان في القضية وإلزامه الصمت والابتعاد عن الظهور والانصراف إلى الصلاة التي كانت أساساً خبزه اليومي، وقبل حكم المحكمة الفرنسية وخلالها وبعدها.
عبارة «كاهن متهم بالتحرش» تغري صحافيين ممن يفتشون عن سبق خارج المألوف وعن كسر المحرّمات، والتباهي بالمسّ بمواقع وشخصيات دينية بغض النظر عن فحوى القضية وأساسها وخلفياتها. في عصر انفتاح قضايا التحرش الجنسي في الكنيسة، والأفلام والكتب التي توثق شهادات واعتداءات وخروقات أخلاقية وإنسانية، يصبح الاتهام بالتحرش صيغة جاهزة معلّبة من دون النظر في الحقائق.
سارع هؤلاء، منذ أن بدأ أول أحرف القضية عام 2011 وصولاً إلى قرار الفاتيكان إلزامه الابتعاد عن الظهور والانصراف إلى الصلاة، إلى إلباسه لباس المحكوم سلفاً، من دون الأخذ بالاعتبارات التي تداخلت فيها القضايا العائلية التي يمكن حلّها بهدوء في إطار العائلة في المنزل والمالية والنفوذ وكل ما يمكن أن يشكل عناصر أساسية في مثل هذه القضايا الشائكة.
والأنكى أن قلّة من المعلقين والمتباهين بتعليقاتهم، والذين تحوّلوا قضاة وطالبي إعدام، رافقوا القضية بحيثياتها منذ أن انفجرت أو قرأوا الملفات الخاصة أو قرأوا أوراقها، في الفاتيكان أو في فرنسا ولبنان، وماذا كتب عنه في الصحف المتخصصة كنسياً، ولا سيما «لاكروا»، وكانت الذريعة للبعض بأنها قضية صحيحة لمجرد تناولها فيها، ولماذا وكيف ومن هم وراء الحملة الإعلامية؟
وثالثاً، هي قضية تغري جمهور مواقع التواصل الاجتماعي الذي لا يعرف لبكي ولم يسمع باسمه من قبل ولا سمع له ترتيلة ولا عظة، فسارع هؤلاء إلى التعليق بكل العبارات النافرة ضد رجل الدين الرفيع صاحب السلطة والسطوة والنفوذ، بعضهم لمجرد أنه رجل دين رفيع صاحب سلطة وسطوة ونفوذ، وبعضهم لمجرد أن القضية هي اتهام بالتحرّش الجنسي في زمن الاتهامات الكثيفة ضد متحرشين فعليين وهم بالمئات، تحت سطوة الإعلام وعدم السكوت عن الجرائم المرتكبة، فلاحقوه إعلامياً.
والمفارقة في زمن المشاكل القضائية أن كل الجميع أصبحوا فجأة مولعين بأحكام المحاكم الفرنسية والإشادة بها واعتبارها منزّهة عن كل شائبة. فرنسا نفسها التي تعاني من تبعات تقرير اللجنة المستقلة التي بحثت على مدى سنتين في الاعتداءات الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، ولا تزال غارقة منذ أسابيع في تداعياتها وتعويضاتها والعلاقة مع الفاتيكان حول التداخل بين أسرار الكنيسة والأعمال المرتكبة وحق الدولة المدنية في الوصول إلى المعلومات.
في المقابل، غرق لبكي في الصمت بناء على طلب الكرسي الرسولي، وقت طالبه الكثيرون بالعمل علانية لإظهار براءته، وغرق في الوجع والمرض والشيخوخة والتراتيل التي تابع العمل عليها. لكن القضية موجعة بكل تفاصيلها. لا يقبل أي إنسان الاعتداءات الجنسية، فكيف الحال ضد أطفال وقصّر واستغلال المسؤوليات ومراكز القوة. لكن هل هذه حقيقة ما حصل؟ وهل ضاعت أعمار من تقول المحكمة الفرنسية إنهن كن ضحايا من صرف عمراً في بناء تاريخ كنسي وأجيال ربيت على تراتيله ولا تزال ترددها.
وما هو تفسير حكم المحكمة الفرنسية الذي جاء أكثر شدة من حكم الفاتيكان وفي توقيت لافت فرنسياً وكنسياً، بتوجيه الأنظار نحو كاهن لبناني، وقت يدان عشرت الكهنة الفرنسيين لكن من خلال تقارير ومراجعات كنسية وفكرية ومالية. وكيف يمكن أن تتعامل الكنيسة في لبنان مع تداعيات قرار المحكمة الفرنسية وهل تخضع له، أم تخضع للفاتيكان الذي سبق أن أعطى حكمه.
ومن هو المرجع الصالح في لبنان، وعلى مستوى الكنيسة، للنظر بقضايا تحرش واعتداءات، لأن هذه القضية ستكون سابقة، على المستوى الإعلامي والرأي العام، وستطالب الكنيسة من الآن وصاعداً بالتعامل بشفافية مع أي من هذه القضايا، وعدم التستر عليها. وهذا يعني أن عليها أن تكون شفافة في هذا الملف تحديداً الذي حمله البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وقدّسه وباركه بلمسته، وتقول كلمتها فيها من دون مواربة. فالمطلوب ليس براءة المجرمين، لكن في المقابل عدم تجريم أبرياء تحت سطوة أي عنوان.
- -٦ على عدم ذكر أنه اعترف بثلاثة ادعاءات ضده
- +٢ لإضافة المشاعر الدينية والتراتيل والترانيم والأجواء الرومانسية إلى النص
- -٤ لتكرار إشارتك إلى زمن الفضائح/الاتهامات/المشاكل/السبق الصحفي خمس مرّات
- -١٠ لمحاولة إظهار مجرم كشخص بريء مسن مسكين يعاني من تبعات الافتراءات والاختراعات والمؤامرات
- -٨ لتكذيب الضحايا وتسييس معاناتهم
- +٤ للمطالبة بتحقيقات شفافة في لبنان دون مواربة أو تستر
- -٢ لنسيان أنّ لبنان لا يخضع للمنطق