لو كان في علوم الخيل درجة الأستاذية لكان صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، هو الأستاذ الأكبر في هذا العِلم الجليل.
فثقافته وخبراته ونظراته وبَصماته في هذا المجال من الطراز الفريد الذي يتعلّم منه الناس ولا بُدّ، ومَنْ تبصّر في كلامه عن طِباع الخيل وأخلاقها، وشرفها وسُلالاتها، ورفيع منزلتها في وجدان العرب، لاح له عُمق الخبرة، ونبرة الفخر، ونفوذ البصيرة في هذا العالم الذي هو في ميزان سموه من مفاخر العرب الذين روّضوا الخيل بحسب رأي سموّه قبل تسعة آلاف سنة.
وكانوا هم الذين اكتشفوا هذا الكائن العجيب الفريد الذي أحبته العرب وأكرمته وخلطته بالمال والعيال، وجعلته في وجدانها رمزاً من رموز الكرامة الشخصية التي يهون معها كل الخسائر في سبيل أن تظلّ الخيل عزيزة مكرّمة لا يلحقها الهوان.
ومَنْ طالع القصة العجيبة التي ذكرها صاحب السموّ في سيرته الذاتية البديعة (قصتي: خمسون قصة في خمسين عاماً) عن الفرس الأصيلة «كحيلة»، أدرك مَغزى كل كلمة يقولها صاحب السموّ عن عالم الخيل الفريد الذي يعشقه صاحب السموّ، ويُفسح له من قلبه ووقته ويُعطيه من الاهتمام ما جعل منه واحداً من أكبر مُلّاك الخيل الأصيلة على مستوى العالم.
اليوم، ومِنْ وحي عالم الخيل وأخلاقها وطبيعتها، استلهم صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد ومضة قيادية رائعة المحتوى والمغزى والدلالة نشرها على حسابه في إنستغرام، ضبط فيها إيقاع التعامل مع الخيل، وكيف أنّ أي خلل في السيطرة عليها، زيادة أو نقصاً، سيؤدي إلى الفشل لا محالة، مُنبّهاً على ضرورة توفّر عنصري الدقة والذكاء لكل فارس يعلو ظهور الخيل ويقتحم بها ميادين التنافس والسباق، تماماً كما هي الحياة، لا يفوز فيها ويحتلُّ مراكزها المتقدمة إلا مَنْ ضبط حساباته واستعدّ لكل الظروف، ثم اندفع بقلبه الجسور في أودية المغامرات، وانتزع الفوز المُشرّف الذي لا يتنازل عن المركز الأول بكل حالٍ من الأحوال.
(إذا إنت على حصانك أو فرسك، تصوّر إذا مشيت على حصانك خطوة أسرع تعبتْ حصانك ولا وصلت) بهذه الجملة الإرشادية النابعة من الخبرة العميقة يفتتح صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد هذه الومضة القيادية التي أصبحت جزءاً من تقاليدنا الثقافية ينتظرها الناس بشوقٍ وسرور لما تشتمل عليه من الدروس البليغة، والعِبر النافعة التي يستلهمها صاحب السموّ من خلال مسيرته الرائعة في معركة البناء والإعمار، ويُريد لها أن تكون جزءاً من خبرات الأجيال القادمة، إذ يقدم هذه النصيحة في قالب الحكاية التي تكون قريبة جداً من القلب، فأنت إذا لم تكن ضابطاً لحركة الحصان في لحظة السباق فربما كان ذلك سبباً في ضياع فرصة الفوز، وقليلة جداً هي الجِياد التي تتجاوز هذه العقبة الاستثنائية.
ومن أراد أن يستمتع بحادثة فريدة في هذا السياق فليقرأ بعُمقٍ ومتعة ما كتبه صاحب السموّ عن الحصان الأسطورة «دبي ميلينيوم» الذي انطلق بسرعة مذهلة منذ بداية السباق في كأس دبي العالمي عام 2000 م، وكيف أن جميع المراقبين وجهوا اللوم وربما الشتائم للفارس فرانكلي على هذه الانطلاقة الجنونية للحصان باستثناء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وشقيقه الشيخ مكتوم بن راشد رحمه الله، فقد كانا شديدي الثقة بهذا الحصان الأعظم، الذي لم يُخيّب الظن، وانتزع الفوز الثمين في هذا السباق العالمي العظيم.
ولكنّ الخيول ليست كلها مثل «دبي ميلينيوم» ومن هنا يوجّه صاحب السموّ هذه النظرات الثاقبة في طبيعة الحياة، وأنها يجب أن تكون مضبوطة الإيقاع بحيث يمكن السيطرة على مجرياتها، فمن غامر بحصانه، وزاد من سرعته في الوقت غير المناسب فربما كان ذلك سبباً في خسارته التي لا تُعوّض بالندم وصَفْقِ الكفّ على الكف.
(وإذا مشيت خطوة أقلّ، ما فزت) هذا هو القسم الثاني من درس الخيل، إذا تأخر الفارس خطوة واحدة في الوقت غير المناسب كان ذلك سبباً مؤكداً في خسارته، ليكون ذلك تمهيداً للعبارة التالية من كلام صاحب السموّ والتي هي جوهر الومضة إذ يقول: (لازم تكون دقيق إنت وحصانك، وتعرف شو مقدرته، وتمشي على مقدرة الحصان) فهذا هو القانون الضابط للحياة بجميع تجلياتها، ومساراتها.
وليس هو خاصّاً بالخيل التي جعلها صاحب السموّ رمزاً للنجاح أو الفشل بحسب ما يسلكه الفارس من التعامل معها في رحلة الحياة والتي تتجسد في سباق الخيل، فالقانون الصحيح الذي تنضبط به الحياة هو معرفة قدرة الحصان وكذا الإنسان ثم السير على حسب هذه القدرة ومُعطياتها، كي يصل الإنسان إلى أهدافه بعزيمة واقتدار.
ثم كانت هذه الخاتمة الرائعة للومضة والتي تلخص جوهر رؤية سموه لطبيعة الحياة القائمة على التنافس وبذل الجهد إذ قال: (الإنسان ينتزع الفرص انتزاع، الفرص بتكون بتروح للّي هو مستعد إلها، وإذا أخذت الشيء بالتحدي قادر عليه) ليكون في هذه الخاتمة الدرس الأبلغ في قانون الفرص، وأنها ليست بالشيء السهل، وأنّ الذي يستهين بالفرص هو الإنسان الفاقد للحكمة والعزيمة وقلة الخبرة بطبيعة الحياة.
فالفرص تكون لمن هو مستعدّ لها، عامل في سبيل تحصيلها، ولا نعرف من طبيعة الحياة أنها أعطت الفرص لنائمٍ أو خاملٍ أو كسول، بل إنّ صاحب السموّ لا يكتفي بمجرد الحرص على انتزاع الفرص بل يريد تحصيلها من خلال الشعور بالتحدي لأن ذلك أعمق تأثيراً في النفس الإنسانية، وأكثر قدرة على صقلها وتدريبها، ولسانُ حاله يُنشدُ مع أمير الشعراء أحمد شوقي في استنهاض العزائم، وشَحْذِ الهمم إذ يقول:
وما نيْلُ المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قومٍ مَنالٌ إذا الإقدامُ كان لهم رِكابا.