“إذا قلنا إنّ عشرين سنة من الانتداب تسببت بثمانين عاماً من الخراب، فما الذي يمكن إصلاحه في شهرين؟”
٢٨ سبتمبر، ٢٠٢٠

إيمانويل ماكرون – سفير النوايا الحسنة ورئيس جمهورية فرنسا وضواحيها في الشرق الأوسط
شاهدت مثلكم المشاهد المفزعة والدمار الذي حلَّ في بيروت الشهر الماضي جرّاء الانفجار المؤسف في مرفأ المدينة. ولأنني مثل جميع مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أشعر بانتماءٍ لبيروت ومن قلبي سلامٌ لها، خصوصاً وأنها مدينتي كون لبنان وُجِد بسبب الانتداب الفرنسي، بالإضافة إلى أنها باريس الشرق الأوسط وبالتالي لا فرق بينها وبين باريس الأصلية بالنسبة لنا كحكومة، فزعت لنجدة بيروت وجئت بهدف تغيير 80 سنة من الانتداب والحروب الأهلية والحروب مع دول الجوار والطائفية والأنظمة السياسية المترسخة وإيران والسعودية وهيفاء وهبي، بهدف جريء، وهو تغيير كل ذلك خلال شهرين.
ورغم فشل التجربة، لا أنكر أنَّها كانت مغامرة شيقة استعدنا معها ذكريات الانتداب الفرنسي الجميلة في بلاد الشام، مثل تقسيم سوريا ولبنان حسب الطوائف وإشعال النعرات بينهم؛ لأنَّ الوحدة الوطنية تولد من رحم الحروب الأهلية، وحريق دمشق التي ساعدت سكان المنطقة على التأقلم مع الأنظمة القمعية والاحتباس الحراري، وسرقة الآثار لضمان استمرار علاقة فرنسا مع مستعمراتها بعد استقلالها، وهزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية التي علّمت الدول العربية كيفية التعامل مع الهزائم العسكرية بروح رياضية والتخابر والتعاون والتطبيع مع القوى المحتلة.
لكني في النهاية لم أزر لبنان لأستمتع بوقتي فقط، وخلال الشهرين عملت بجدٍّ على حل مشاكل لبنان، معتمداً على فرضية – يبدو لي الآن أنَّها خاطئة – تقول إنَّه إذا ما أدى الفساد إلى تدمير مدينة بأكملها فذلك سببٌ كافٍ لتغيير النظام السياسي بسرعة. وعلى الأغلب أنَّني لم أعِ مدى تأزم الوضع السياسي في لبنان. فلا أرى أن عيش البلاد لعقدين من الزمن تحت الانتداب، ثم ٢٠ سنة من التقسيم والتشرذم الطائفي، بعدها ١٥ سنة حرب أهلية، تليها ٣٠ سنة من حكم الطبقة السياسية نفسها التي تناحرت في الحرب الأهلية، والاحتلال والنفوذ السوري والاغتيالات والحروب مع إسرائيل والحرب السورية، لا أرى فيها مبرراً لتأخر الإصلاحات الجوهرية وتعيين رئيس الوزراء الذي دعمته، خصوصاً بعد زيارة فيروز، فتلك الخطوة من شأنها محو ١٢ سنة على الأقل من الآثار المترتبة على الانتداب.
أما السنوات الثماني المتبقية فأزلتها ببساطةٍ عندما نزلت إلى الشارع لألتقي باللبنانيين. لا أنكر خسارتي بضعة أشهرٍ بزيارة ماجدة الرومي وعدم ارتدائي للماسك خلال لقاء فيروز، إلا أن سرعة مجيئي ثم عودتي للمرة الثانية تعني أنني زرت اللبنانيين أكثر من الكهرباء هذا الصيف، ما كان يجب أن يكفي ليستحي سياسيو لبنان على دمهم ويعيدوا النظر كلياً في اتفاق الطائف المبني على التقسيمات الطائفية التي ساهمنا في إرسائها منذ ٨٠ سنة؛ أي أننا ساعدناهم في تشخيص المشكلة ووضعناهم على بداية الطريق لإيجاد الحلول، لكنَّهم استغلوها وعاثوا في بلادهم خراباً.
في الحقيقة، ربما جئت بنظرياتٍ وافتراضات لا تصلح للعرب؛ فقد اعتادوا على مدار العقود الأخيرة إلقاء بلاهم دون وجه حق على الدول الأوروبية المسالمة، التي لا شغل لها سوى نشر حقوق الإنسان في دول العالم أجمع، طبعاً شرط عدم وجود مصالح استراتيجية أو نفطية أو تعاون في مجال الطيران الحربي معها، وإعادة مواطني هذه الدول الذين يحاولون الهروب عن طريق البحر إلى مسقط رأسهم لينعموا بتلك الحقوق التي وفرناها لهم في بلادهم.
لكنَّ العرب الناقمين يصرون على تعداد الآثار طويلة الأمد المزعومة لتدخل الغرب في إعمار بلادهم، متناسين الإسهامات الثقافية العديدة التي أضفتها مرحلة الانتداب إلى مجتمعاتهم؛ فيتجاهل المصريون تطوير الإنجليز للبنية التحتية في القاهرة حتى إفلاس الخديوي، وقوانين منع المثلية الجنسية والدعارة التي حافظت على قيم أسرهم، ويتجاهل مواطنو المغرب العربي تعلَّم الكثير منهم ثلاث لغاتٍ بفضلنا، كما يركزون على وعد بالفور والنكبة دون إعارة أي اهتمام لسنوات الخبرة العملية التي منحوها للفلسطينيين في الاعتماد على النفس ومواجهة التحديات، والتي كانت مفيدة جداً وساهمت في تأقلمهم بعد اغتصاب أرضهم وتهجيرهم.
بصراحة، كنت قد بدأت أشعر باليأس وقلة الحيلة ولوم نفسي على الفشل في نشل لبنان من القاع، لكنَّ بات جلياً أنَّني لم أخطئ قط، ولا يُلام أحد عدا السياسيين في لبنان؛ إذ يجب عليهم تحمل المسؤولية فوراً والتنازل عن كل ميزاتهم السياسية والمالية التي أسست لنفوذهم وإمبراطورياتهم الفاسدة دون أي مقابل أو أي عقوبات أو حوافز فعلية، وبكامل حسن نية.
شعورك تجاه المقال؟
هل أعجبك هذا المقال؟
لكتابة العنوان، اقترح فريق من ٧ كتاب -على الأقل- ما يزيد عن ٣٠ عنواناً حول هذا الموضوع فقط، اختير منها ٥ نوقشوا بين الكتاب والمحررين، حتى انتقوا واحداً للعمل على تطويره أكثر. بعد ذلك، يسرد أحد الكتاب أفكاره في نص المقال بناء على العنوان، ثم يمحو معظمها ويبقي على المضحك منها وما يحوي رسالةً ما أو يطرح وجهة نظر جديدة. لدى انتهاء الكاتب من كل ذلك، يشطب المحرر ويعدل ويضيف الجمل والفقرات ثم يناقش مقترحاته مع الكاتب، وحين يتفقان، ينتقل النص إلى المدقق اللغوي تفادياً لوجود الهمزات في أماكن عشوائية. في الأثناء، يقص فريق المصممين ويلصق خمس صور ويدمجها في صورة واحدة. كل هذا العمل لإنتاج مقال واحد. إن ضم المزيد من الكتاب والمصممين إلى الفريق التحريري أمر مكلف، ويستغرق المتدرب وقتاً طويلاً لبناء الخبرات والاندماج في العقل الجمعي للفريق.لكن ما الهدف من ذلك كله؟ بالتأكيد أنَّ السخرية من المجانين الذين يتحكمون بحياتنا أمر مريح، لكنَّنا نؤمن أنَّ تعرية الهالات حولهم، وتسليط الضوء على جنونهم، خطوة ضدَّ سلطتهم تدفعنا شيئاً فشيئاً نحو التغيير.نحن نحتاج دعمك للاستمرار بتوسيع الفريق.