شرّف، ها هو عالمك الذي انمحنت لتغادر المنزل وتراه
فريد شنطماري - أستاذ الحقائق البسيطة
٢٨ مايو، ٢٠٢٠
منذ بدأ الحجر المنزلي، وأنت تتذمر من المكوث في المنزل؛ ترنو للعودة إلى حياتك السابقة مستخدماً كل وسائل التعبير عن اشتياقك لها، حتى تمنينا لو لم تكن هناك هواتف ولا مكالمات ولا مواقع تواصل اجتماعي تطل بها علينا بخواطرك وحنينك وعواطفك المتأججة.
ومع انقضاء كل يوم، التهمك الحنين وتملكتك الهلوسات وأحلام اليقظة التي زادت العالم جمالاً بعينيك؛ فصار الهواء خارج المنزل نقياً، والرصيف رصيفاً، والأشجار أشجاراً .. خضراء يانعة، نبتت حولها أزهار بروائح شذية، واستقلت بينها قطة مع أولادها، صار في البناء المقابل لك جار ظريف يجلس صباحاً على الشرفة مع زوجته وابنته يشربون قهوة الصباح ويتحدثون ويضحكون، وأناس مطمئنون مرتاحون يبادلونك الابتسامة، بينهم حبيبان سارا متقاربين يشبكان أيديهما ببعضهما. صارت الشوارع معبدة تسير فيها السيارات النظيفة ملتزمة بقوانين السير، المواصلات متوفرة تسير في مسارب خاصة وتتحرك وفق مواعيد واضحة. والمكان نظيف وسلال القمامة متوفرة في كل مكان. الأبنية جميلة ومتناغمة، والمحال نظيفة بلافتات من كل الألوان والأحجام جميلة وأنيقة، المطاعم تقدم وجبات لذيذة وصحية، الدائرة الحكومية تسير معاملتك، المستشفى الحكومي يعالجك، المدرسة الحكومية تعلم ابنك. وظيفتك جميلة، التاجر يبيعك بضاعة، الميكانيكي يصلح سيارتك لتقلَّك في نزهة إلى منطقة حدودية خضراء يانعة ملأى بالبيارات والكروم والبساتين والأنهار مفتوحة لاستقبال الجميع.
خارج المنزل، صرت حراً بالتظاهر، ولكنك لن تفعل، لأن لا شيء يدعو للتظاهر.
في الخارج، صرت تضحك على أشياء بسيطة صافية وحقيقية من كل قلبك.
ولكنك أخيراً، وبعد طول إلحاح ومحن ونكد، غادرت المنزل وعدت لأحضان العالم. شرِّف، شرّفي: ها هو العالم المهترئ بسخامه وغباره وفوضاه وضجيجه ونفاياته ومجاريه الطافحة وروائحه ومزابله وذبابه وازدحام شوارعه وعصبية سائقيه وتجاوزهم القوانين. ها هو بأشجاره المصفرَّة وعشبه الجاف وأزهاره الباهتة، ها هو بتلوثه البصري ولافتاته الفجة القبيحة ومبانيه المتسخة. ها هو بمتحرشيه وفتياته الخائفات من السير وحدهنَّ في الشارع. ها هو بالحبيبن اللذين شبكا أيديهما فرمقهما الناس بنظرات كراهية واشمئزاز، وطاردهما أحد مندوبي العفة بكاميرا هاتفه ونشر عرضهما على الإنترنت وتكفلت الدولة بملاحقتهما وزجِّهما في السجن. ها هو بأرصفتِه التي تحولت لمواقف سيارات، وشوارعه المخصصة للناس والسيارات. ها هو بغيمة التلوث التي تُظلُّ مدينتك.
ها هو بحيواناته التي تنفق جراء حوادث الدهس أو الجرب أو مطاردة الأولاد لها لقتلها. بشرطة سيره التي تعرف أن المسؤول وموكبه فوق القانون ولا مانع لديها من إيقافك ساعات حتى يمر حضرة جنابه. ها هو بأزقته وزواياه التي تحولت إلى حمَّامات عامة لعدم وجود حمامات عامة حقيقية. بمطاعمه القذرة – ولكن الحق يقال إن وجباتها لذيذة- ها هو بأبنيته التي وضعها المقاولون والمهندسون والبناؤون وارتضاها الناس وسكنوها على عجالة كيفما اتفق. بمواصلاته العامة النادرة التي تتحرك وفق مزاج سائق الحافلة أو سيارة الأجرة. بجارك الجالس على الشرفة بمفرده بعدما ضرب ونهر زوجته وابنته ومنعهما من الظهور أمام الناس معه على الشرفة.
تفضَّل .. ها هو العالم بدوائره الحكومية التي تحتاج واسطة ودفعاً من تحت الطاولة وحملة جمع تواقيع كل موظفي الدولة لتأييد أن تنهي فيها معاملتك. بمستشفياته الحكومية غير المعنية بأمرك، ومستشفياته الخاصة والأطباء الذين يآجرون بك ويدوِّخونك بين المختبرات والتحاليل ومضارب القلق ليتكسَّبوا ويقبضوا عمولاتهم. بمدارسه وجامعاته ومدرِّسيه ومناهجه غير المعنية بتعليمك حقاً. بأسعار سلعه رديئة الصنع التي بتَّ بحاجة لوظيفتين أو ثلاث – أو الاشتغال بالدعارة – لتغطيتها.
هذا هو عالمك، بخطب النصر على العدو وأنت ممنوع من زيارة المناطق الحدودية الملأى بالغابات والأنهار.
هذا هو عالمك، ولكنك تحبه، إياك ثم إياك، لا تجادل، حرية تعبير؟ عبِّر، هيَّا، ولكن، تذكر أن تلتفت حولك جيداً وأنت تركض هرباً من العسس والمُخبرين والعصي والعيارات النارية والأحذية المتربصين بك.
.. في خيالك كان كل شيء جميلاً وعلى ما يرام، وكان ضحكتك صافية وحقيقية من كل قلبك؛ إذ ما من شيء يدعوك للضحك العصبي من عالمك الحقيقي الخراء.
الشعوب ذاكرتها قصيرة، وأنت فرد من الشعوب، درويش على باب الله، تعاني متلازمة ستوكهولم، أو عندك أمل، أو تعيش حبيس أوهامك وخيالاتك. لا عليك، لأن من ينهمك في شيء ما ليس كمن ينظر إليه من بعيد. لكن تأمل بهذا: أنت، مُذ قبعت في منزلك، راح دماغك يضرب أخماساً بأسداس، وخلق عالماً مثالياً جميلا ليسلّيك ويذكِّرك أن هناك شيئاً أفضل بانتظارك؛، ويحمل صورة معاكسة لواقعك السابق. هل تتوقع أن تخرج وتجده حقاً؟ لو كان موجوداً على أرض الواقع لما حلمت به، في الحقيقة، لقد كنت تحلم به قبل الحجر، أنسيت؟