َقصة نجاح: هكذا أصطاد الموظف قبل دقائق من نهاية الدوام وأسلِّمه مهامَّ تحتاج أربع ساعات لإنجازها
١٩ فبراير، ٢٠٢٠
بعد عصور ذهبية عاش فيها المدير مَجد السلطة والقوة والجبروت، حين كانت أدوات الإدارة تقتصر على السوط والعصا، حين كان الموظف عبدا والموظفة خليلة، حين كانت نظرة عدم رضى من طرف العين كفيلة بإيقاف العبيد على رجل واحدة، دخلت المفاهيم الإنسانية، ومنذ ذلك الحين، بدأت الأوضاع بالتدهور: راح السوط والعصا، وحل محلهما الصياح والإهانات والشتائم، وعقب ذلك جاء الحوار والتفاهم، حتى وصلنا إلى أصعب وأسوأ مرحلة يمر فيها المدراء عبر التاريخ، حيث انتشرت موضة حقوق العمال ومنع التنمّر وتجريم العنف والتحرش الجنسي والـ#مي_تو، وأجبر المدير على التعامل مع عبيده وكأنهم بشر، ولم تعد بيده حيلة للتجبّر بهم سوى الخصم من رواتبهم، ليتذكر المسكين أنَّه مجبرٌ على منحهم رواتب لقاء عملهم.
وفوق كل هذه الضغوطات، يُطالَب المدير بتحقيق أهداف الشركة وزيادة أرباحها والحفاظ على مستوى عالٍ من الإنتاجية، دون أدنى مراعاة لحقيقة أنَّ موظفي هذه الأيام باتوا قادرين على العودة إلى منازلهم مع انتهاء الدوام، ولا يمكن إجبارهم على البقاء بمجرد إخبارهم بأنَّ عليهم البقاء.
لم يرضخ جميع المدراء لهذه الأنماط المستحدثة للعلاقة مع موظفيهم، بعض الشجعان منهم تأقلم معها واستغلَّها خير استغلال. مدير المشاريع في شركة الأفق العالمية، السيد نعمان الحُرِّيش، أحد هؤلاء؛ يصطاد الموظفين قبل دقائق من مغادرتهم، ويبقيهم في مكاتبهم على رأس عملهم لساعاتٍ وساعات ينجزون المزيد والمزيد من المهام، دون أن يدفع لهم فلساً إضافياً واحداً.
ذهبت قبل عدة أيامٍ إلى منزل صديقي رمزي، وعندما لم أجده هناك، أدركت أنَّه في شركته، فبحثت عنه في مكاتبها إلى أن عثرت عليه، إلا أن السيد نعمان منعنا من التحدث سوية كي لا أشتّت تركيزه، ولم يبق أمامي سوى الحديث معه، وسؤاله عن الطريقة التي استطاع من خلالها إبقاء رمزي وزملائه في مكاتبهم طوال الوقت، فعدَّد لي بضع نصائح سريعاً قبل مغادرته إلى البنك لقبض شيك المكافأة التي صرفها لنفسه والتوجه بعدها إلى معرض السيارات لاستبدال السيارة التي اشتراها الشهر الماضي.
التخطيط المسبق والإعداد النفسي
عوض البقاء في مكتبه ومطالعة صفحات صديقات زوجته وصديقات صديقاتها على فيسبوك، يضحِّي السيد نعمان ببعض الوقت للاختلاط بموظفيه، فيسأل عن أحوالهم وأخبارهم وما ينقصهم في الشركة؛ ومع أنه لا يكترث بذلك ولا يستمع لإجاباتهم أساساً، إلا أنَّ مجرَّد السؤال يغرس في عقل الموظف أنَّ مديره شخصٌ محترم يهتم بمصلحته، وأنَّ بينهما نوعاً من الصداقة، فيصدق أنَّه بحاجة ماسّة لوجوده وإلا لم يكن ليطلب ذلك، أو يخشى أن يرفض طلب المدير ويكسر قلب الإنسان اللطيف الذي يسأل عن أحواله يومياً.
لحظة الانقضاض على الفريسة
يراقب السيد نعمان موظفيه قبل نهاية الدوام ويعدّ الرؤوس المتبقية، ليوهم الموظفين بأنَّه يقوم بإجراءٍ روتيني يحصي فيه المتغيبين ومن غادر مبكراً ليعاقبهم فيما بعد، لكنَّه في الحقيقة يحلِّل تحرُّكاتهم ليختار الفرائس الأسهل منهم، ثم ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليهم في أضعف أحوالهم، فلا يترك لهم مجالاً للوصول إلى باب الشركة ورؤية النور، بل يهجم عندما يبدؤون بالنظر إلى ساعاتهم أو يباغتهم قبل دخولهم الحمام استعداداً للمغادرة.
فن أكل الكتف
على عكس المدير التقليدي، ينصت نعمان لموظفيه عندما يقصدونه لطلب الإجازات والمغادرات والتململ من العمل، طبعاً ليس لتنفيذ مطالبهم، وإنما لجمع المعلومات واستغلالها في نهاية الدوام. على سبيل المثال: يذكِّر من يطلب زيادة بأنَّ بقاءه في الشركة سيحسِّن صورته أمام الإدارة مما يدفعهم -ربّما- إلى منحه الزيادة التي يريد عندما تحقق الشركة أرباحاً أكثر بفضله، دون تحديد موعدٍ لهذه الزيادة. أما من يطلب مغادراتٍ لظروفٍ عائلية فيؤكد له أنَّ عائلته في العمل تحتاجه أيضاً، وعليه الالتزام بواجباته تجاهها والتضحية لأجلها، تفادياً لتدهورها وضياعها الذي سيتسبب بإغلاق قسمه وفصله من العمل ليضيِّع بذلك العائلتين.
الافتراس عن بُعد
يعرف نعمان متى يضغط على الموظف ويجبره على البقاء، ومتى يتركه لحال سبيله، فإذا لمس أثراً سلبياً من إبقاء الموظف تحت يده، يؤكد له فوراً تقديره لوضعه واحترامه لوقته، وأنَّ بإمكانه إكمال العمل على الـ ٥-١٣ مهمّة من المنزل إن أراد وبأي وقتٍ يناسبه، شرط أن يأتي في اليوم التالي مُنجزاً كافة هذه. كما يطري على الموظف قبل مغادرته، لتبقى صورة السيد نعمان في وجدانه ويتغلغل صوت السيد نعمان في عقله الباطن، فيؤنبه ضميره إن لم ينجزها كاملةً.