قصة معاناة: غادرت المنطقة بحثاً عن حياةٍ أفضل فانتهى بي الأمر في بريطانيا
١٣ ديسمبر، ٢٠١٩
ربَّما اعتدتم على نهايات سعيدة للقصص المنشورة في الصحف، كتدخُّل القائد في اللحظة الحاسمة لينقذ عائلة منكوبة أو يطفئ حريقاً، أو تمكُّن شابٍ طموحٍ من تأسيس شركة ناجحة عالمية، أو موت بطل القصة. لكن، ولأنَّنا في الحدود وضعنا نقل الواقع كما هو هدفاً لنا، لن نقدِّم قصةً شاعرية تبعث الأمل في نفوسكم كما تفعل الصحف التقليدية سعياً للحصول على المزيد من القراءات والمتابعين.
بطل قصِّتنا، إسلام فوارع*، ولد في بلادنا وترعرع بمدارسها الحكومية وضُرب في حواريها وغرفته والصالة وغرفة الضيوف أمام عائلة خاله صباح العيد، لم يترك دائرةً حكومية إلا وزارها وتنقَّل بين مكاتب مدرائها ومدراء مكاتبها وموظفي استقبالها وغرف استراحاتها بحثاً عن الموظف رمزي الذي غادر شُبَّاكه لتناول الإفطار. تعامل إسلام مع توفُّر أمننا الناعم والخشن وانعدامهما على حد سواء، دخل جامعاتنا وصوَّر دفاتر طالباتها قبل أن يضربه أبناء عمومتهن، ومع ذلك أصر على تحسين مستوى حياته، وأدرك أنَّ لا سبيل لذلك إلا بالهجرة، فحاول وطلع ونزل وقدَّم المعامالات وانتظر في الأدوار دون جدوى، وعندما ظنَّ أنَّ الحظ لعب أخيراً بصفه، رمي المسكين في بريطانيا بحالتها هذه.
كتب إسلام،
بدأت معاناتي مع الهجرة، كأيِّ شابٍ من أبناء المنطقة، بعد إنهائي دراستي الجامعية ودخولي سوق العمل، فلم أترك مكتباً إلا ورميت سيرتي الذاتية عليه دون أن أتلقى حتى رسالة رفضٍ من أي شركة، ولمَّا أيقنت أنَّ تجار هذا السوق محتالون ولا يمكن لزبون لا يعرف والده أحد التجار دخوله، عقدت العزم على الغربة حاملاً شهادتي في علم الحاسوب على صدري، ومؤمناً حينها بقدرتي على الذهاب أينما أردت كأنَّني لم أتعرض لما يكفي من خيباتٍ لأقتنع بأن اليأس هو الحل، ومقتنعاً أنَّ الأفضل ينتظرني، أنا وأولادي الذين سأنجبهم، هناك طبعاً.
اخترت الحصول على قبولٍ لدراسة الماجستير في إحدى جامعات الدول الاسكندنافية مقتدياً بشقيق زوج خالتي الذي يعيش ملكاً في السويد، وقدَّمت على منحٍ طبعاً لأنَّني أبرع بما درست ولا أملك ما يكفي من مالٍ لأدرس على حسابي، خصوصاً وأنَّ والدي بالكاد نظر في وجهي بعد إنهائي الجامعة. وبالطبع، رُفضتُ من كافة الجامعات فوراً، باستثناءٍ واحدةٍ سحبت قبولها بعد اكتشافهم أنَّني لم ألبِّ شرط امتلاك سنتي خبرةٍ على الأقل.
بعدها، بدأت بتنفيذ الخطة “ب” وقدَّمت طلباتٍ لأستراليا وكندا، الذين لم يُشملوا بالخطة الأولى نظراً لبُعدهما عن بلادي التي أردت العودة إليها كلَّ صيفٍ جالباً الهدايا معي. لكن لأنَّ الرياح لا تجري بما تشتهي السفن، بل وتكون أقوى مما يمكن لأي سفينة الصمود أمامه فتحطمها وتقتل كلَّ من على سطحها، وجدتُ نفسي مُتَّجها من السفارة حاملاً ورقة الرفض إلى مركزٍ لتعليم اللغة الألمانية، لأمضي فيه أسبوعين تبين لي خلالهما أنَّني سأكون على فراش الموت حين أتقنها.
أخيراً، فقدت الأمل، وعثرت على وظيفةٍ بدخلٍ جيِّدٍ بعد بضع سنواتٍ من البحث والعمل الحرِّ بتصميم المواقع وملاحقة أصحابها حتى يدفعوا أجري، وفي الشركة تعرَّفت على فتاةٍ صارت زوجتي وأم أولادي، فشعرتُ باستقرارٍ نسبيِّ وضعني على أولى خطوات التأقلم مع البلاد، حتى حصَلَت هي على عقد عملٍ في لندن، وفشلت كلُّ محاولاتي بإقناعها رفضه لأنَّنا تعبنا للعثور على بيتٍ بإيجار مناسبٍ واشترينا خزانةً وأسرّةً للأولاد ومخدَّاتٍ ومايكرويف لا يمكن حملها معنا، ومع إصرار أبنائي على مغادرة البلاد، اضطررت أن أرافقهم مغلوباً على أمري.
تنزّهت بحدائق لندن ورأيت معالمها السياحية خلال أسبوعي الأول فيها، ويمكنني القول إنَّني قضيت وقتاً ممتعاً رغم مواجهتي صعوبةً في التواصل مع أهلها نظراً لضعف لغتهم الإنجليزية واضطراري لحمل المظلة أينما ذهبت تحسباً لأي عاصفةٍ مفاجئة وعدم رؤيتي للشمس أبداً. لكنَّ السبات والنبات انتهى بعد هذا الأسبوع، حينما أدركت أنَّ الشمس لا تطلع على المدينة ولم يكن الأمر متعلقاً بحالةٍ جويةٍ مؤقتة.
مضت عدّة أشهر من تناول المكملات الغذائية للحصول على حاجتي من الفيتامين دال، ليبدأ بعدها البريطانيون بالتصويت. قلت لنفسي إنَّني سأعتاد الديمقراطية وأتقنها كأنَّني بريطانيٌّ أباً عن جد بعد حصولي على جنسيتها وأتنقل بين كل الدول الأوروبيَّة على راحتي وأصوِّت فيها جميعها، لأكتشف أنَّ قليلي التقدير جاحدي النعمة هؤلاء يصوِّتون للخروج من الاتحاد الأوروبي ويعفِّرون على رؤوسهم ليدمروا اقتصادهم بأيديهم خوفاً من وجود أمثالي بينهم.
يستمر البريطانيون في التصويت إلى اليوم، لم يمض شهرٌ لم يصوِّتوا فيه على شيءٍ ما، وها هم الآن يصوتون لاختيار رئيسٍ جديد، بدَّلوا رؤساء خلال الأربع سنواتٍ التي قضيتها هنا أكثر من الرؤساء الذين مروا على دولتي بتاريخها كلِّه، كأنَّهم اكتشفوا الديموقراطية البارحة ولم يصدقوا أنفسهم، فراحوا يستعملونها ليلاً نهاراً فرحين بما اكتشفوا، غير مدركين أنَّ كثرة استهلاكِ الأشياء تقصِّر عمرها.
يختار البريطانيون في انتخاباتهم الرئاسيَّة حزباً عوض انتقاء شخص، لكن شخصاً معيناً هو من يصبح رئيساً إن فاز حزبه، ويصير الحزب المنافس الكبير الآخر معارضة، حتى لو اتفقوا على كل شيء، ثمَّ يشكلون حكومةً ويذهبون لمجلس النواب يصرخون فيه ببعضهم البعض، ويعيَّن صاحب أقوى حنجرةٍ بينهم رئيساً لهذا المجلس ليصرخ فيهم إن صرخوا بصوتٍ مرتفعٍ أكثر من اللازم، ثمَّ هنالك ملكة منصبها شكلي، لكن لا يمكن لأيٍّ من هذا أن يحدث دون موافقتها المباشرة، ليس بناءً على أيِّ شيءٍ نظراً لعدم امتلاكهم دستور. كلُّ هذا موجودٌ في الأوضاع العادية، فما بالكم بشكل الأمور الآن في ظلِّ بريكزيت؟ في الحقيقة كنت لأقدم نقداً أوضح لو فهمت أيَّ شيءٍ من السياسة البريطانية، لكنَّ ما أعرفه هو أن المرشحَين الأساسيين كلٌّ منهما أسوأ من الآخر والحياة هنا زفت.
لا أعلم إن كانت المشكلة فيَّ أنا، وبأثر الفراشة أتسبب بخراب أيّ بلدٍ أذهب إليه، أو تسريع انهيارٍ بدَأ قبل وصولي إليها بعقود كما الحال في بريطانيا، لكن أنصحكم بتفادي هذه الدولة المشتتة والمتفككة، التي لم تحدِّد بعد إن كانت بلداً أوروبياً أو ولاية أمريكية. مهما ساءت الظروف في بلادكم، ابقوا فيها معزَّزين مكرَّمين مبهدلين أفضل لكم.
*اسمٌ مستعار، لإسلام اسمٌ أخر، إلّا أنَّ البريطانيين يخطئون بلفظه وقراءته دوماً ويظنون أنَّه إسلام، فتزداد عنصريتهم ضده أكثر لاعتقادهم أنَّه ليس عربياً فقط، وإنما مسلمٌ ملتزم فوق ذلك.